الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموافقات ***
الْمَنْدُوبُ مِنْ حَقِيقَةِ اسْتِقْرَارِهِ مَنْدُوبًا أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ، لَا فِي الْقَوْلِ وَلَا فِي الْفِعْلِ، كَمَا لَا يُسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الِاعْتِقَادِ، فَإِنْ سُوِيَّ بَيْنَهُمَا فِي الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ؛ فَعَلَى وَجْهٍ لَا يُخِلُّ بِالِاعْتِقَادِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ بِأُمُورٍ أَحَدُهَا: أَنَّ التَّسْوِيَةَ فِي الِاعْتِقَادِ بَاطِلَةٌ بِاتِّفَاقٍ، بِمَعْنَى أَنْ يَعْتَقِدَ فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَالْقَوْلُ أَوِ الْفِعْلُ إِذَا كَانَ ذَرِيعَةً إِلَى مُطْلَقِ التَّسْوِيَةِ وَجَبَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَا يُمْكِنَ ذَلِكَ إِلَّا بِالْبَيَانِ الْقَوْلِيِّ وَالْفِعْلِ الْمَقْصُودِ بِهِ التَّفْرِقَةُ، وَهُوَ تَرْكُ الِالْتِزَامِ فِي الْمَنْدُوبِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَاصَّةِ كَوْنِهِ مَنْدُوبًا. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ هَادِيًا وَمُبَيِّنًا لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ؛ كَنَهْيِهِ عَنْ إِفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ أَوْ لَيْلَتِهِ بِقِيَامٍ وَقَوْلِه: «لَا يَجْعَلْ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ حَظًّا فِي صِلَاتِهِ» بَيَّنَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ وَاسِعُ بْنُ حِبَّانَ انْصَرَفْتُ مِنْ قِبَلِ شِقِّيَ الْأَيْسَرِ، فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَنْصَرِفَ عَنْ يَمِينِكَ؟ قُلْتُ: رَأَيْتُكَ فَانْصَرَفْتُ إِلَيْكَ قَالَ: أَصَبْتَ إِنَّ قَائِلًا يَقُولُ: انْصَرِفْ عَنْ يَمِينِكَ وَأَنَا أَقُولُ: انْصَرَفَ كَيْفَ شِئْتَ، عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ يَسَارِكَ. وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ بَعْدَ مَا قَرَّرَ حُكْمًا غَيْرَ وَاجِبٍ: مِنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ وَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: «هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ». وَقَالَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ تَقْدِيمِ بَعْضِ أَفْعَالِ الْحَجِّ عَلَى بَعْضٍ مِمَّا لَيْسَ تَأْخِيرُهُ بِوَاجِبٍ: لَا حَرَجَ قَالَ الرَّاوِي: فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ؛ إِلَّا قَالَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ مَعَ أَنَّ تَقْدِيمَ بَعْضِ الْأَفْعَالِ عَلَى بَعْضٍ مَطْلُوبٌ، لَكِنْ لَا عَلَى الْوُجُوبِ وَنَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ أَنْ يُتَقَدَّمَ رَمَضَانُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَحَرَّمَ صِيَامَ يَوْمِ الْعِيدِ، وَنَهَى عَنِ التَّبَتُّلِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [الْمُزَّمِّل: 8]، وَنَهَى عَنِ الْوِصَالِ، وَقَالَ: «خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ» مَعَ أَنَّ الِاسْتِكْثَارَ مِنَ الْحَسَنَاتِ خَيْرٌ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَإِقْرَارِهِ مِمَّا خِلَافُهُ مَطْلُوبٌ وَلَكِنْ تَرَكَهُ وَبَيَّنَهُ خَوْفًا أَنْ يَصِيرَ مِنْ قَبِيلٍ آخَرَ فِي الِاعْتِقَادِ. وَمَسْلَكٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: «وَمَا سَبَّحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ، وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا وَقَدْ قَامَ لَيَالِيَ مِنْ رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ؛ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، ثُمَّ كَثُرُوا فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَعَلَّلَ بِخَشْيَةِ الْفَرْضِ. وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْن: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُفْرَضَ بِالْوَحْيِ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ النَّاسِ. وَالثَّانِي: فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ الْخَوْفُ أَنْ يَظُنَّ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ بَعْدَهُ إِذَا دَاوَمَ عَلَيْهَا الْوُجُوبَ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ مُتَمَكِّنٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ عَمِلُوا عَلَى هَذَا الِاحْتِيَاطِ فِي الدِّينِ لَمَّا فَهِمُوا هَذَا الْأَصْلَ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَكَانُوا أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ؛ فَتَرَكُوا أَشْيَاءَ وَأَظْهَرُوا ذَلِكَ لِيُبَيِّنُوا أَنَّ تَرْكَهَا غَيْرُ قَادِحٍ وَإِنْ كَانَتْ مَطْلُوبَةً؛ فَمِنْ ذَلِكَ تَرْكُ عُثْمَانَ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ فِي خِلَافَتِهِ، وَقَالَ إِنِّي إِمَامُ النَّاسِ فَيَنْظُرُ إِلَيَّ الْأَعْرَابُ وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ؛ فَيَقُولُونَ: هَكَذَا فُرِضَتْ وَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ مَطْلُوبٌ وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ أَسِيدٍ: شَهِدْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَكَانَا لَا يُضَحِّيَانِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَى النَّاسُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَقَالَ بِلَالٌ: لَا أُبَالِي أَنْ أُضَحِّيَ بِكَبْشٍ أَوْ بِدِيكٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِي لَحْمًا بِدِرْهَمَيْنِ يَوْمَ الْأَضْحَى، وَيَقُولُ لِعِكْرِمَةَ: مَنْ سَأَلَكَ فَقُلْ هَذِهِ أُضْحِيَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَانَ غَنِيًّا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنِّي لَأَتْرُكُ أُضْحِيَّتِي وَإِنِّي لَمِنْ أَيْسَرِكُمْ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَظُنَّ الْجِيرَانُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ: كُنَّا نُضَحِّي عَنِ النِّسَاءِ وَأَهْلِينَا؛ فَلَمَّا تَبَاهَى النَّاسُ بِذَلِكَ تَرَكْنَاهَا وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ مَطْلُوبَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي صَلَاةِ الضُّحَى: إِنَّهَا بِدْعَةٌ وَحُمِلَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْن: إِمَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَهَا جَمَاعَةً، وَإِمَّا أَفْذَاذًا عَلَى هَيْئَةِ النَّوَافِلِ فِي أَعْقَابِ الْفَرَائِضِ، وَقَدْ مَنَعَ النِّسَاءَ الْمَسَاجِدَ مَعَ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِه: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ؛ لِمَا أَحْدَثْنَ فِي خُرُوجِهِنَّ وَلِمَا يُخَافُ فِيهِنَّ» وَالرَّابِعُ: أَنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَمَرُّوا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي التَّفَاصِيلِ؛ فَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ صِيَامَ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ وَذَلِكَ لِلْعِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، مَعَ أَنَّ التَّرْغِيبَ فِي صِيَامِهَا ثَابِتٌ صَحِيحٌ؛ لِئَلَّا يُعْتَقَدَ ضَمُّهَا إِلَى رَمَضَانَ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِلْعَجَمِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُضْحِيَّةِ بِنَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ حَيْثُ اسْتَدَلَّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ بِفِعْلِ الصَّحَابَةِ الْمَذْكُورِ وَتَعْلِيلِهِمْ وَالْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ، وَسَدُّ الذَّرِيعَةِ أَصْلٌ عِنْدَهُ مُتَّبَعٌ، مُطَّرِدٌ فِي الْعَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ؛ فَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ نَقْطَعُ بِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ إِذَا اسْتَوَى الْقَوْلَانِ أَوِ الْفِعْلَانِ مَقْصُودٌ شَرْعًا، وَمَطْلُوبٌ مِنْ كُلِّ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ قَطْعًا كَمَا يُقْطَعُ بِالْقَصْدِ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا اعْتِقَادًا.
وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا تَحْصُلُ بِأُمُورٍ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوب: مِنْهَا بَيَانُ الْقَوْلِ إِنِ اكْتُفِيَ بِهِ وَإِلَّا؛ فَالْفِعْلُ وَهُوَ أَحْرَى بَلْ هُوَ فِي هَذَا النَّمَطِ مَقْصُودٌ، وَقَدْ يَكُونُ فِي سَوَابِقِ الشَّيْءِ الْمَنْدُوبِ وَفِي قَرَائِنِهِ وَفِي لَوَاحِقِهِ، وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ مِمَّا تَقَدَّمَ وَأَشْبَاهُهُ. وَأَكْثَرُ مَا يَحْصُلُ الْفَرْقُ فِي الْكَيْفِيَّاتِ الْعَدِيمَةِ النَّصِّ، وَأَمَّا الْمَنْصُوصَةُ فَلَا كَلَامَ فِيهَا، فَالْفِعْلُ أَقْوَى إِذًا فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ يُصَدِّقُ الْقَوْلَ أَوْ يُكَذِّبُهُ.
وَكَمَا أَنَّ مِنْ حَقِيقَةِ اسْتِقْرَارِ الْمَنْدُوبِ أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ فِي الْفِعْلِ كَذَلِكَ مِنْ حَقِيقَةِ اسْتِقْرَارِهِ أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ فِي التَّرْكِ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ الْمَنْدُوبُ؛ فَإِنَّهُ لَوْ وَقَعَتِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا لَفُهِمَ مِنْ ذَلِكَ مَشْرُوعِيَّةُ التَّرْكِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يُفْهَمْ كَوْنُ الْمَنْدُوبِ مَنْدُوبًا، هَذَا وَجْهٌ. وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبِ إِخْلَالًا بِأَمْرٍ كُلِّيٍّ فِيهِ، وَمِنَ الْمَنْدُوبَاتِ مَا هُوَ وَاجِبٌ بِالْكُلِّ؛ فَيُؤَدِّي تَرْكُهُ مُطْلَقًا إِلَى الْإِخْلَالِ بِالْوَاجِبِ، بَلْ لَابُدَّ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ لِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ فَيَعْمَلُوا بِهِ، وَهَذَا مَطْلُوبٌ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، كَمَا كَانَ شَأْنُ السَّلَفِ الصَّالِحِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بُنَيَّ إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ وَلَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا بُنَيَّ وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي؛ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي؛ كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ» فَجَعَلَ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ إِحْيَاءً لَهَا؛ فَلَيْسَ بَيَانُهَا مُخْتَصًّا بِالْقَوْلِ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي نُزُولِ الْحَاجِّ بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مَكَّةَ، وَهُوَ الْأَبْطَحُ: أَسْتَحِبُّ لِلْأَئِمَّةِ وَلِمَنْ يُقْتَدَى بِهِ أَنْ لَا يُجَاوِزُوهُ حَتَّى يَنْزِلُوا بِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ حَقِّهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ قَدْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءُ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِحْيَاءُ سُنَنِهِ، وَالْقِيَامُ بِهِ لِئَلَّا يُتْرَكَ هَذَا الْفِعْلُ جُمْلَةً، وَيَكُونُ لِلنُّزُولِ بِهَذَا الْمَوْضِعِ حُكْمُ النُّزُولِ بِسَائِرِ الْمَوَاضِعِ، لَا فَضِيلَةَ لِلنُّزُولِ بِهِ بَلْ لَا يَجُوزُ النُّزُولُ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ هَكَذَا نَقَلَ الْبَاجِيُّ. وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي أَنَّ الْمَنْدُوبَ لَابُدَّ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا لَيْسَ بِمَنْدُوبٍ، وَذَلِكَ بِفِعْلِهِ وَإِظْهَارِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي حَدِيثِ عُمَرَ «بَلْ أَغْسِلُ مَا رَأَيْتُ، وَأَنْضَحُ مَا لَمْ أَرَ» فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ عُمَرَ رَأَى أَنَّ أَعْمَالَهُ وَأَقْوَالَهُ نَهْجٌ لِلسُّنَّةِ وَأَنَّهُ مَوْضِعٌ لِلْقُدْوَةِ، يَعْنِي: فَعَمِلَ هُنَا عَلَى مُقْتَضَى الْأَخْذِ عَنْهُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي التَّوْسِعَةِ عَلَى النَّاسِ فِي تَرْكِ تَكَلُّفِ ثَوْبٍ آخَرَ لِلصَّلَاةِ، وَفِي تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ غَسْلِ الثَّوْبِ. وَفِي الْحَدِيث: «وَاعْجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْعَاصِ! لَئِنْ كُنْتَ تَجِدُ ثِيَابًا؛ أَفَكُلُّ النَّاسِ يَجِدُ ثِيَابًا؟ وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُهَا لَكَانَتْ سُنَّةً» الْحَدِيثَ. وَلِمَكَانِ هَذَا وَنَحْوِهِ اقْتَدَى بِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَفِيدُهُ؛ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيز: أَخَّرْتَ الصَّلَاةَ شَيْئًا فَقَالَ: إِنَّ ثِيَابِي غُسِلَتْ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُ تِلْكَ الثِّيَابِ لِزُهْدِهِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ لَعَلَّهُ تَرَكَ أَخْذَ سِوَاهَا مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ لِيُقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ، ائْتِسَاءً بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ فَقَدْ كَانَ أَتْبَعَ النَّاسِ لِسِيرَتِهِ وَهَدْيِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَمِمَّا نَحْنُ فِيهِ مَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِيمَنْ صَارَ تَرْكُ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ لَهُ إِلْفًا وَعَادَةً، وَخِيفَ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ، أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَزْجُرَهُ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَجْمَعُوا حَطَبًا» الْحَدِيثَ وَقَالَ: أَيْضًا فِيمَا إِذَا تَوَاطَأَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْهَاهُمْ قَالَ: لِأَنَّ اعْتِيَادَ جَمِيعِ النَّاسِ لِتَأْخِيرِهَا مُفْضٍ بِالصَّغِيرِ النَّاشِئِ إِلَى اعْتِقَادِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْوَقْتُ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ. وَأَشَارَ إِلَى نَحْوِ هَذَا فِي مَسَائِلَ أُخَرَ، وَحَكَى قَوْلَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ اعْتِرَاضِ الْمُحْتَسِبِ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ فِي إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِجَمَاعَةٍ اخْتُلِفَ فِي انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِمْ فِي بَعْضِ وُجُوهِهَا، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ هُوَ يَرَى إِقَامَتَهَا وَهُمْ لَا يَرَوْنَهَا، وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِإِقَامَتِهَا عَلَى رَأْيِهِ بِاعْتِبَارِ الْمَصْلَحَةِ؛ لِئَلَّا يَنْشَأَ الصَّغِيرُ عَلَى تَرْكِهَا، فَيَظُنُّ أَنَّهَا تَسْقُطُ مَعَ زِيَادَةِ الْعَدَدِ كَمَا تَسْقُطُ بِنُقْصَانِهِ. وَهَذَا الْبَابُ يَتَّسِعُ، وَمِمَّا يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي تَقْوِيَةِ اعْتِبَارِ الْبَيَانِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَأَشْبَاهِهَا مِمَّا ذُكِرَ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ قِصَّةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَعَ عُرْوَةَ بْنِ عِيَاضٍ حِينَ نَكَتَ بِالْخَيْزُرَانَةِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ غَرَّتْنِي مِنْكَ لِسَجْدَتِهِ الَّتِي بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ سُنَّةً مِنْ بَعْدِي؛ لَأَمَرْتُ بِمَوْضِعِ السُّجُودِ فَقُوِّرَ. وَقَدْ عَوَّلَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَجَعَلُوهُ أَصْلًا يَطَّرِدُ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ الَّذِي اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى إِعْمَالِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي التَّفَاصِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [الْبَقَرَة: 104] وَقَوْلِه: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الْأَنْعَام: 108] وَقَدْ مَنَعَ مَالِكٌ لِمَنْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ أَنْ لَا يُفْطِرَ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إِلَى إِفْطَارِ الْفُسَّاقِ مُحْتَجِّينَ بِمَا احْتَجَّ بِهِ، وَقَالَ بِمِثْلِهِ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَا زُورٍ بِأَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَلَمْ يَفْعَلْ؛ فَمَنَعَهُ مِنْ وَطْئِهَا إِلَّا أَنْ يَخْفَى ذَلِكَ عَنِ النَّاسِ. وَرَاعَى زِيَادٌ مِثْلَ هَذَا فِي صَلَاةِ النَّاسِ فِي جَامِعِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ فَإِنَّهُمْ إِذَا صَلَّوْا فِي صَحْنِهِ وَرَفَعُوا مِنَ السُّجُودِ مَسَحُوا جِبَاهَهُمْ مِنَ التُّرَابِ؛ فَأَمَرَ بِإِلْقَاءِ الْحَصَى فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: لَسْتُ آمَنُ أَنْ يَطُولَ الزَّمَانُ فَيَظُنُّ الصَّغِيرُ إِذَا نَشَأَ أَنَّ مَسْحَ الْجَبْهَةِ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ سُنَّةٌ فِي الصَّلَاةِ. وَمَسْأَلَةُ مَالِكٍ مَعَ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى الْمُوَطَّأِ؛ فَنَهَاهُ مَالِكٌ عَنْ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا وَلَقَدْ دَخَلَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى عُثْمَانَ وَهُوَ مَحْصُورٌ؛ فَقَالَ لَهُ: انْظُرْ مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ، يَقُولُونَ: اخْلَعْ نَفْسَكَ أَوْ نَقْتُلُكَ قَالَ لَهُ: أَمُخَلَّدٌ أَنْتَ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: لَا قَالَ: هَلْ يَمْلِكُونَ لَكَ جَنَّةً أَوْ نَارًا؟ قَالَ لَا قَالَ: فَلَا تَخْلَعْ قَمِيصَ اللَّهِ عَلَيْكَ فَتَكُونَ سُنَّةً، كُلَّمَا كَرِهَ قَوْمٌ خَلِيفَتَهُمْ خَلَعُوهُ أَوْ قَتَلُوهُ. وَلَمَّا هَمَّ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ أَنْ يَبْنِيَ الْبَيْتَ عَلَى مَا بَنَاهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ شَاوَرَ مَالِكًا فِي ذَلِكَ؛ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا تَجْعَلَ هَذَا الْبَيْتَ مَلْعَبَةً لِلْمُلُوكِ بَعْدَكَ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُغَيِّرَهُ إِلَّا غَيَّرَهُ؛ فَتَذْهَبَ هَيْبَتُهُ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ فَصَرَفَهُ عَنْ رَأْيِهِ فِيهِ؛ لَمَّا ذَكَرَ مِنْ أَنَّهَا تَصِيرُ سُنَّةً مُتَّبَعَةً بِاجْتِهَادٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ فَلَا يَثْبُتُ عَلَى حَالٍ.
الْمُبَاحَاتُ مِنْ حَقِيقَةِ اسْتِقْرَارِهَا مُبَاحَاتٍ أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَنْدُوبَاتِ وَلَا الْمَكْرُوهَاتِ؛ فَإِنَّهَا إِنْ سُوِّيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَنْدُوبَاتِ بِالدَّوَامِ عَلَى الْفِعْلِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ فِيهَا مُعَيَّنَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ تُوُهِّمَتْ مَنْدُوبَاتٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَسْحِ الْجِبَاهِ بِأَثَرِ الرَّفْعِ مِنَ السُّجُودِ، وَمَسْأَلَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي غَسْلِ ثَوْبِهِ مِنَ الِاحْتِلَامِ وَتَرْكِ الِاسْتِبْدَالِ بِهِ. وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ أَمِيرِ الْمَدِينَةِ؛ فَجَلَسَ سَاعَةً ثُمَّ دَعَا بِالْوُضُوءِ وَالطَّعَامِ، فَقَالَ: ابْدَءُوا بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي نَفْسَهُ لَا يَغْسِلُ يَدَهُ فَقَالَ: لِمَ؟ قَالَ: لَيْسَ هُوَ الَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ رَأْيِ الْأَعَاجِمِ، وَكَانَ عُمَرُ إِذَا أَكَلَ مَسَحَ يَدَهُ بِبَاطِنِ قَدَمِهِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِك: أَأَتْرُكُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ فَمَا عَادَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ صَالِحٍ قَالَ مَالِكٌ: وَلَا نَأْمُرُ الرَّجُلَ أَنْ لَا يَغْسِلَ يَدَهُ وَلَكِنْ إِذَا جَعَلَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ؛ فَلَا، أَمِيتُوا سُنَّةَ الْعَجَمِ، وَأَحْيُوا سُنَّةَ الْعَرَبِ، أَمَّا سَمِعْتَ قَوْلَ عُمَرَ: تَمَعْدَدُوا وَاخْشَوْشِنُوا وَامْشُوا حُفَاةً وَإِيَّاكُمْ وَزِيِّ الْعَجَمِ. وَهَكَذَا إِنْ سَوَّى فِي التَّرْكِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَكْرُوهَاتِ رُبَّمَا تُوُهِّمَتْ مَكْرُوهَاتٍ؛ فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكْرَهُ الضَّبَّ وَيَقُولُ: «لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَتِهِ»؛ فَظَهَرَ حُكْمُهُ. وَقُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ فِيهِ ثُومٌ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ قَالَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ وَهُوَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّه: أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ مِنْ أَجْلِ رِيحِهِ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِه: كُلُوا فَإِنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ، إِنِّي أَخَافُ أَنْ أُؤْذِيَ صَاحِبِي» وَرُوِيَ فِي الْحَدِيث: «أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةٍ خَشِيَتْ أَنْ يُطْلِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ لَا تُطَلِّقْنِي، وَأَمْسِكْنِي، وَاجْعَلْ يَوْمِيِ لِعَائِشَةَ فَفَعَلَ؛ فَنَزَلَتْ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} الْآيَةَ [النِّسَاء: 128] فَكَانَ هَذَا تَأْدِيبًا وَبَيَانًا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ لِأَمْرٍ رُبَّمَا اسْتُقْبِحَ بِمَجْرَى الْعَادَةِ؛ حَتَّى يَصِيرَ كَالْمَكْرُوهِ، وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ. وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْفَصْلِ نَحْوٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْمَنْدُوبَاتِ.
الْمَكْرُوهَاتُ مِنْ حَقِيقَةِ اسْتِقْرَارِهَا مَكْرُوهَاتٍ أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَلَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُبَاحَاتِ. أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّهَا إِذَا أُجْرِيَتْ ذَلِكَ الْمَجْرَى تُوُهِّمَتْ مُحَرَّمَاتٍ، وَرُبَّمَا طَالَ الْعَهْدُ فَيَصِيرُ التَّرْكُ وَاجِبًا عِنْدَ مَنْ لَا يَعْلَمُ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ فِي بَيَانِ ذَلِكَ ارْتِكَابًا لِلْمَكْرُوهِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْبَيَانُ آكَدُ وَقَدْ يُرْتَكَبُ النَّهْيُ الْحَتْمُ إِذَا كَانَتْ لَهُ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ؛ أَلَا تَرَى إِلَى كَيْفِيَّةِ تَقْرِيرِ الْحُكْمِ عَلَى الزَّانِي، وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُ: أَنِكْتَهَا هَكَذَا مِنْ غَيْرِ كِنَايَةٍ، مَعَ أَنَّ ذِكْرَ هَذَا اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَعْرِضِ الْبَيَانِ مَكْرُوهٌ أَوْ مَمْنُوعٌ؟ غَيْرَ أَنَّ التَّصْرِيحَ هُنَا آكَدُ، فَاغْتُفِرَ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ؛ فَكَذَلِكَ هُنَا، أَلَا تَرَى إِلَى إِخْبَارِ عَائِشَةَ عَمَّا فَعَلَتْهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَلَا أَخْبَرْتِيهَا أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ ذِكْرَ مِثْلِ هَذَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْبَيَانِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ارْتِجَازِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِقَوْلِه: إِنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا مِثْلُ هَذَا لَا حَرَجَ فِيهِ. وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَلِأَنَّهَا إِذَا عُمِلَ بِهَا دَائِمًا وَتُرِكَ اتِّقَاؤُهَا تُوُهِّمَتْ مُبَاحَاتٍ فَيَنْقَلِبُ حُكْمُهَا عِنْدَ مَنْ لَا يَعْلَمُ وَبَيَانُ ذَلِكَ يَكُونُ بِالتَّغْيِيرِ وَالزَّجْرِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ فِي الْإِنْكَارِ، وَلَا سِيَّمَا الْمَكْرُوهَاتِ الَّتِي هِيَ عُرْضَةٌ لِأَنْ تُتَّخَذَ سُنَنًا، وَذَلِكَ الْمَكْرُوهَاتُ الْمُفَعْوِلَةُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَفِي مَوَاطِنِ الِاجْتِمَاعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَالْمَحَاضِرِ الْجُمْهُورِيَّةِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ مَالِكٌ شَدِيدَ الْأَخْذِ عَلَى مَنْ فَعَلَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَكْرُوهَاتِ، بَلْ وَمِنَ الْمُبَاحَاتِ؛ كَمَا أَمَرَ بِتَأْدِيبِ مَنْ وَضَعَ رِدَاءَهُ أَمَامَهُ مِنَ الْحَرِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
مَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَتَفَرَّعُ عَنْهَا قَوَاعِدُ فِقْهِيَّةٌ وَأُصُولِيَّةٌ، مِنْهَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمَنِ الْتَزَمَ عِبَادَةً مِنِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ النَّدْبِيَّةِ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَيْهَا مُوَاظَبَةً يَفْهَمُ الْجَاهِلُ مِنْهَا الْوُجُوبَ، إِذَا كَانَ مَنْظُورًا إِلَيْهِ مَرْمُوقًا، أَوْ مَظِنَّةً لِذَلِكَ، بَلِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدَعَهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ؛ لِأَنَّ خَاصِّيَّةَ الْوَاجِبِ الْمُكَرَّرِ الِالْتِزَامُ وَالدَّوَامُ عَلَيْهِ فِي أَوْقَاتِهِ، بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ خَاصِّيَّةَ الْمَنْدُوبِ عَدَمُ الِالْتِزَامِ، فَإِذَا الْتَزَمَهُ فَهِمَ النَّاظِرُ مِنْهُ نَفْسَ الْخَاصِّيَّةِ الَّتِي لِلْوَاجِبِ؛ فَحَمَلَهُ عَلَى الْوُجُوبِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ؛ فَضَلَّ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْعِبَادَةُ تَتَأَتَّى عَلَى كَيْفِيَّاتٍ يُفْهَمُ مِنْ بَعْضِهَا فِي تِلْكَ الْعِبَادَةِ مَا لَا يُفْهَمُ مِنْهَا عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْأُخْرَى، أَوْ ضُمَّتْ عِبَادَةٌ أَوْ غَيْرُ عِبَادَةٍ إِلَى الْعِبَادَةِ قَدْ يُفْهَمُ بِسَبَبِ الِاقْتِرَانِ مَا لَا يُفْهَمُ دُونَهُ، أَوْ كَانَ الْمُبَاحُ يَتَأَتَّى فِعْلُهُ عَلَى وُجُوهٍ فَيُثَابَرُ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ تَحَرِّيًا لَهُ وَيَتْرُكُ مَا سِوَاهُ، أَوْ يَتْرُكُ بَعْضَ الْمُبَاحَاتِ جُمْلَةً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، بِحَيْثُ يُفْهَمُ مِنْهُ فِي التَّرْكِ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ. وَلِذَلِكَ لَمَّا قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السَّجْدَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ النَّاسُ، قَرَأَهَا فِي كَرَّةٍ أُخْرَى، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ مَوْضِعِهَا تَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ؛ فَلَمْ يَسْجُدْهَا، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَشَاءَ. وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْوُضُوءِ؛ فَقَالَ: أَيُحِبُّ أَنْ يَذْبَحَ؟ إِنْكَارًا لِمَا يُوهِمُهُ سُؤَالُهُ مِنْ تَأْكِيدِ الطَّلَبِ فِيهَا عِنْدَ الْوُضُوءِ وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ؛ أَنَّهُ قَالَ: لَا نُبَالِي أَبَدْأَنَا بِأَيْمَانِنَا أَمْ بِأَيْسَارِنَا يَعْنِي: فِي الْوُضُوءِ، مَعَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ التَّيَامُنُ فِي الشَّأْنِ كُلِّهِ. وَمِثَالُ الْعِبَادَاتِ الْمُؤَدَّاةِ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ يُلْتَزَمُ فِيهَا كَيْفِيَّةٌ وَاحِدَةٌ إِنْكَارُ مَالِكٍ لِعَدَمِ تَحْرِيكِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ. وَمِثَالُ ضَمِّ مَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ إِلَى الْعِبَادَةِ حِكَايَةُ الْمَاوَرْدِيِّ فِي مَسْحِ الْوَجْهِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ السُّجُودِ وَحَدِيثُ عُمَرَ مَعَ عَمْرٍو: لَوْ فَعَلْتُهَا لَكَانَتْ سُنَّةً، بَلْ أَغْسِلُ مَا رَأَيْتُ وَأَنْضَحُ مَا لَمْ أَرَ. وَمِثَالُ فِعْلِ الْجَائِزِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ مَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْوُضُوءِ قَالَ: لَا، الْوُضُوءُ مَرَّتَانِ مَرَّتَانِ، أَوْ ثَلَاثٌ ثَلَاثٌ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُحَدَّ فِي الْوُضُوءِ وَلَا فِي الْغُسْلِ إِلَّا مَا أَسْبَغَ. قَالَ اللَّخْمِيُّ: وَهَذَا احْتِيَاطٌ وَحِمَايَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ إِذَا رَأَى مَنْ يَقْتَدِي بِهِ يَتَوَضَّأُ مَرَّةً مَرَّةً فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ لَا يُحْسِنُ الْإِسْبَاغَ بِوَاحِدَةٍ فَيُوقِعُهُ فِيمَا لَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ بِهِ. وَالْأَمْثِلَةُ كَثِيرَةٌ، وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا فُعِلَ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، وَحَيْثُ يُمْكِنُ الِاقْتِدَاءُ بِالْفَاعِلِ، وَأَمَّا مَنْ فَعَلَهُ فِي نَفْسِهِ وَحَيْثُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَعَ اعْتِقَادِهِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ؛ فَلَا بَأْسَ كَمَا قَالَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي صِيَامِ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ: إِنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ مُعْتَقِدًا وَجْهَ الصِّحَّةِ؛ فَلَا بَأْسَ، وَكَذَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَة: حَيْثُ لَا أُحِبُّ ذَلِكَ إِلَّا لِلْعَالِمِ بِالْوُضُوءِ، وَمَا ذَكَرَهُ اللَّخْمِيُّ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ الْوَاحِدَةَ حَيْثُ لَا يُقْتَدَى بِهِ، فَلَا بَأْسَ وَهُوَ جَارٍ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ مَالِكٍ فِيهِ عَدَمُ التَّوْقِيتِ. فَأَمَّا إِنْ أَحَبَّ الِالْتِزَامَ وَأَنْ لَا يَزُولَ عَنْهُ وَلَا يُفَارِقُهُ؛ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمَرْأًى مِنَ النَّاسِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ؛ فَرُبَّمَا عَدَّهُ الْعَامِّيُّ وَاجِبًا أَوْ مَطْلُوبًا أَوْ مُتَأَكَّدَ الطَّلَبِ بِحَيْثُ لَا يُتْرَكُ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ شَرْعًا؛ فَلَابُدَّ فِي إِظْهَارِهِ مِنْ عَدَمِ الْتِزَامِهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَلَابُدَّ فِي الْتِزَامِهِ مِنْ عَدَمِ إِظْهَارِهِ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَدِلَّةِ وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا مُضَادٌّ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ لِلدَّوَامِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ لِأَنَّا نَقُولُ: كَمَا يُطْلَقُ الدَّوَامُ عَلَى مَالَا يُفَارَقُ أَلْبَتَّةَ كَذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَكُونُ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ، فَإِذَا تُرِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ؛ لَمْ يَخْرُجْ صَاحِبُهُ عَنْ أَصْلِ الدَّوَامِ، كَمَا لَا نَقُولُ فِي الصَّحَابَةِ حِينَ تَرَكُوا التَّضْحِيَةَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَات: إِنَّهُمْ غَيْرُ مُدَاوِمِينَ عَلَيْهَا؛ فَالدَّوَامُ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ إِطْلَاقِهِ عَدَمُ التَّرْكِ رَأْسًا، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْغَلَبَةُ فِي الْأَوْقَاتِ أَوِ الْأَكْثَرِيَّةُ، بِحَيْثُ يُطْلَقُ عَلَى صَاحِبِهِ اسْمُ الْفَاعِلِ إِطْلَاقًا حَقِيقِيًّا فِي اللُّغَةِ. وَلَمَّا كَانَتِ الصُّوفِيَّةُ قَدِ الْتَزَمَتْ فِي السُّلُوكِ مَا لَا يَلْزَمُهَا حَتَّى سَوَّتْ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ فِي الْتِزَامِ الْفِعْلِ، وَبَيْنَ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ فِي الْتِزَامِ التَّرْكِ، بَلْ سَوَّتْ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ فِي التَّرْكِ، وَكَانَ هَذَا النَّمَطُ دَيْدَنُهَا لَا سِيَّمَا مَعَ تَرْكِ أَخْذِهَا بِالرُّخَصِ؛ إِذْ مِنْ مَذَاهِبِهَا عَدَمُ التَّسْلِيمِ لِلسَّالِكِ فِيهَا مِنْ حَيْثُ هُوَ سَالِكٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَلْزَمُ الْجُمْهُورَ، بَنَوْا طَرِيقَهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ تَلَامِيذِهِمْ عَلَى كَتْمِ أَسْرَارِهِمْ وَعَدَمِ إِظْهَارِهَا، وَالْخَلْوَةِ بِمَا الْتَزَمُوا مِنْ وَظَائِفِ السُّلُوكِ وَأَحْوَالِ الْمُجَاهَدَةِ خَوْفًا مِنْ تَعْرِيضِ مَنْ يَرَاهُمْ وَلَا يَفْهَمُ مَقَاصِدَهُمْ إِلَى ظَنِّ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَاجِبًا أَوْ مَا هُوَ جَائِزٌ غَيْرَ جَائِزٍ أَوْ مَطْلُوبًا، أَوْ تَعْرِيضِهِمْ لِسُوءِ الْقَالِ فِيهِمْ فَلَا عَتْبَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا لَا عَتْبَ عَلَيْهِمْ فِي كَتْمِ أَسْرَارِ مَوَاجِدِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ يَسْتَنِدُونَ، وَلِأَجْلِ إِخْلَالِ بَعْضِهِمْ بِهَذَا الْأَصْلِ؛ إِمَّا لِحَالٍ غَالِبَةٍ، أَوْ لِبِنَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ صَحِيحٍ، انْفَتَحَ عَلَيْهِمْ بَابُ سُوءِ الظَّنِّ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَبَابُ فَهْمِ الْجُهَّالِ عَنْهُمْ مَا لَمْ يَقْصِدُوهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مَحْظُورٌ.
الْوَاجِبَاتُ لَا تَسْتَقِرُّ وَاجِبَاتٍ إِلَّا إِذَا لَمْ يُسَوَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ فَلَا تُتْرَكُ وَلَا يُسَامَحُ فِي تَرْكِهَا أَلْبَتَّةَ، كَمَا أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ لَا تَسْتَقِرُّ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا لَمْ يُسَوَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ؛ فَلَا تُفْعَلُ وَلَا يُسَامَحُ فِي فِعْلِهَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَلَكِنَّا نَسِيرُ مِنْهُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنَ الْوَاجِبَاتِ مَا إِذَا تُرِكَتْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا حُكْمٌ دُنْيَوِيٌّ، وَكَذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مَا إِذَا فُعِلَتْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا أَيْضًا حُكْمٌ فِي الدُّنْيَا، وَلَا كَلَامٌ فِي مُتَرِتِّبَاتِ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ تَحَكُّمَاتِ الْعِبَادِ. كَمَا أَنَّ مِنَ الْوَاجِبَاتِ مَا إِذَا تُرِكَتْ وَمِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مَا إِذَا فُعِلَتْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا حُكْمٌ دُنْيَوِيٌّ مِنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. فَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمٌ يُخَالِفُ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ؛ فَمِنْ حَقِيقَةِ اسْتِقْرَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ فِي تَغْيِيرِ أَحْكَامِهَا تَغْيِيرُهَا فِي أَنْفُسِهَا؛ فَكُلُّ مَا يُحْذَرُ فِي عَدَمِ الْبَيَانِ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ يُحَذَرُ هُنَا لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَالْأَدِلَّةُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ هُنَالِكَ يَجْرِي مَثَلُهَا هُنَا. وَيَتَبَيَّنُ هَذَا الْمَوْضِعُ أَيْضًا بِأَنْ يُقَالَ: إِذَا وَضَعَ الشَّارِعُ حَدًّا فِي فِعْلٍ مُخَالِفٍ فَأُقِيمَ ذَلِكَ الْحَدُّ عَلَى الْمُخَالِفِ؛ كَانَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فِيهِ مُقَرَّرًا مُبَيِّنًا فَإِذَا لَمْ يُقَمْ فَقَدْ أُقِرَّ عَلَى غَيْرِ مَا أَقَرَّهُ الشَّارِعُ، وَغُيِّرَ إِلَى الْحُكْمِ الْمُخَالِفِ الَّذِي لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَوَقَعَ بَيَانُهُ مُخَالِفًا؛ فَيَصِيرُ الْمُنْتَصِبُ لِتَقْرِيرِ الْأَحْكَامِ قَدْ خَالَفَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ؛ فَيَجْرِي فِيهِ مَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا رَأَى الْجَاهِلُ مَا جَرَى؛ تَوَهَّمَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَرَّرَ الْمُنْتَصِبُ الْحُكْمَ عَلَى وَجْهٍ ثُمَّ أَوْقَعَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ؛ حَصَلَتِ الرِّيبَةُ، وَكَذَّبَ الْفِعْلُ الْقَوْلَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ فَسَادٌ، وَبِهَذَا الْمِثَالِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ وَارِثَ النَّبِيِّ يَلْزَمُهُ إِجْرَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَى مَوْضُوعَاتِهَا؛ فِي أَنْفُسِهَا، وَفِي لَوَاحِقِهَا، وَسَوَابِقِهَا، وَقَرَائِنِهَا، وَسَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا شَرْعًا؛ حَتَّى يَكُونَ دِينُ اللَّهِ بَيِّنًا عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَإِلَّا؛ كَانَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 159].
لَا يُخْتَصُّ هَذَا الْبَيَانُ الْمَذْكُورُ بِالْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ، بَلْ هُوَ لَازِمٌ أَيْضًا فِي الْأَحْكَامِ الرَّاجِعَةِ إِلَى خِطَابِ الْوَضْعِ الْبَيَانُ فِي الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْأَسْبَابَ وَالشُّرُوطَ وَالْمَوَانِعَ وَالْعَزَائِمَ وَالرُّخَصَ وَسَائِرَ الْأَحْكَامِ الْمَعْلُومَةِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، لَازِمٌ بَيَانُهَا قَوْلًا وَعَمَلًا، فَإِذَا قُرِّرَتِ الْأَسْبَابُ قَوْلًا وَعُمِلَ عَلَى وَفْقِهَا إِذَا انْتَهَضَتْ؛ حَصَلَ بَيَانُهَا لِلنَّاسِ، فِإِنْ قُرِّرَتْ، ثُمَّ لَمْ تُعْمَلْ مَعَ انْتِهَاضِهَا كَذَّبَ الْقَوْلُ الْفِعْلَ، وَكَذَلِكَ الشُّرُوطُ إِذَا انْتَهَضَ السَّبَبُ مَعَ وُجُودِهَا فَأُعْمِلَ، أَوْ مَعَ فُقْدَانِهَا فَلَمْ يُعْمَلْ؛ وَافَقَ الْقَوْلُ الْفِعْلَ، فَإِنْ عُكِسَتِ الْقَضِيَّةُ وَقَعَ الْخِلَافُ؛ فَلِمَ يَنْتَهِضِ الْقَوْلُ بَيَانًا، وَهَكَذَا الْمَوَانِعُ وَغَيْرُهَا. وَقَدْ أَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْتَضَى الرُّخْصَةِ فِي الْإِحْلَالِ مِنَ الْعُمْرَةِ وَالْإِفْطَارِ فِي السَّفَرِ، وَأَعْمَلَ الْأَسْبَابَ، وَرَتَّبَ الْأَحْكَامَ حَتَّى فِي نَفْسِهِ، حِينَ أَقَصَّ مِنْ نَفْسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهِ، وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا لَا تُحْصَى، وَالشَّرِيعَةُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَالتَّنْبِيهُ كَافٍ.
بَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانٌ صَحِيحٌ لَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لِذَلِكَ بُعِثَ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْل: 44] وَلَا خِلَافَ فِيهِ. وَأَمَّا بَيَانُ الصَّحَابَةِ فَإِنْ أَجْمَعُوا عَلَى مَا بَيَّنُوهُ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ أَيْضًا، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى الْغُسْلِ مِنِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ الْمُبَيِّنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [الْمَائِدَة: 6] وَإِنْ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَيْهِ؛ فَهَلْ يَكُونُ بَيَانُهُمْ حُجَّةً، أَمْ لَا؟ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ وَتَفْصِيلٌ، وَلَكِنَّهُمْ يَتَرَجَّحُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِمْ فِي الْبَيَانِ مِنْ وَجْهَيْن: أَحَدُهُمَا: مَعْرِفَتُهُمْ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ فَإِنَّهُمْ عَرَبٌ فُصَحَاءُ، لَمْ تَتَغَيَّرْ أَلْسِنَتُهُمْ وَلَمْ تَنْزِلْ عَنْ رُتْبَتِهَا الْعُلْيَا فَصَاحَتُهُمْ؛ فَهُمْ أَعْرَفُ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَإِذَا جَاءَ عَنْهُمْ قَوْلٌ أَوْ عَمَلٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ؛ صَحَّ اعْتِمَادُهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. وَالثَّانِي: مُبَاشَرَتُهُمْ لِلْوَقَائِعِ وَالنَّوَازِلِ وَتَنْزِيلِ الْوَحْيِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَهُمْ أَقْعَدُ فِي فَهْمِ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ وَأَعْرَفُ بِأَسْبَابِ التَّنْزِيلِ؛ وَيُدْرِكُونَ مَا لَا يُدْرِكُهُ غَيْرُهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَالشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ. فَمَتَى جَاءَ عَنْهُمْ تَقْيِيدُ بَعْضِ الْمُطْلَقَاتِ أَوْ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْعُمُومَاتِ فَالْعَمَلُ عَلَيْهِ صَوَابٌ، وَهَذَا إِنْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَإِنْ خَالَفَ بَعْضُهُمْ؛ فَالْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ مِثَالُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ» فَهَذَا التَّعْجِيلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقْصَدَ بِهِ إِيقَاعُهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا؛ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يُصَلِّيَانِ الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَا، ثُمَّ يُفْطِرَانِ بَعْدَ الصَّلَاةِ بَيَانًا أَنَّ هَذَا التَّعْجِيلَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، بَلْ إِذَا كَانَ بَعْدَ الصَّلَاةِ؛ فَهُوَ تَعْجِيلٌ أَيْضًا، وَأَنَّ التَّأْخِيرَ الَّذِي يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ شَيْءٌ آخَرُ دَاخِلٌ فِي التَّعَمُّقِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ ذُكِرَ عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ يُؤَخِّرُونَ الْإِفْطَارَ؛ فَنُدِبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى التَّعْجِيلِ. وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ» احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ مُقَيَّدَةً بِالْأَكْثَرِ وَهُوَ أَنْ يُرَى بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَبَيَّنَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ فَرَأَى الْهِلَالَ فِي خِلَافَتِهِ قَبْلَ الْغُرُوبِ، فَلَمْ يُفْطِرْ حَتَّى أَمْسَى وَغَابَتِ الشَّمْسُ. وَتَأَمَّلْ؛ فَعَادَةُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي مُوَطَّئِهِ وَغَيْرِهِ الْإِتْيَانُ بِالْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ مُبَيِّنًا بِهَا السُّنَنَ، وَمَا يُعْمَلُ بِهِ مِنْهَا وَمَا لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَمَا يُقَيَّدُ بِهِ مُطْلَقَاتُهَا، وَهُوَ دَأْبُهُ وَمَذْهَبُهُ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَمِمَّا بَيَّنَ كَلَامُهُمُ اللُّغَةَ أَيْضًا، كَمَا نَقَلَ مَالِكٌ فِي دُلُوكِ الشَّمْسِ وَغَسَقِ اللَّيْلِ كَلَامَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي مَعْنَى السَّعْيِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الْجُمُعَةَ: 9] وَفِي مَعْنَى الْإِخْوَةِ أَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ أَنَّ الْإِخْوَةَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا كَمَا تَبَيَّنَ بِكَلَامِهِمْ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. لَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ رَاجِعٌ إِلَى تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ مِنَ النِّزَاعِ وَالْخِلَافِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: نَعَمْ، هُوَ تَقْلِيدٌ، وَلَكِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَا لَا يُمْكِنُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ عَلَى وَجْهِهِ؛ إِلَّا لَهُمْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُمْ عَرَبٌ وَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ هُوَ عَرَبِيُّ الْأَصْلِ وَالنِّحْلَةِ وَبَيْنَ مَنْ تَعَرَّبَ: غَلَبَ التَّطَبُّعُ شِيمَةَ الْمَطْبُوعِ *** وَأَنَّهُمْ شَاهَدُوا مِنْ أَسْبَابِ التَّكَالِيفِ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهَا مَا لَمْ يُشَاهِدْ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَنَقْلُ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ كَالْمُتَعَذِّرِ؛ فَلَابُدَّ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ فَهْمَهُمْ فِي الشَّرِيعَةِ أَتَمُّ وَأَحْرَى بِالتَّقْدِيمِ، فَإِذَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ فِي السُّنَّةِ مِنْ بَيَانِهِمْ مَا هُوَ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ التَّفْسِيرِ، بِحَيْثُ لَوْ فَرَضْنَا عَدَمَهُ لَمْ يُمْكِنْ تَنْزِيلُ النَّصِّ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِهِ؛ انْحَتَمَ الْحُكْمُ بِإِعْمَالِ ذَلِكَ الْبَيَانِ لِمَا ذُكِرَ، وَلِمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ مِنِ اتِّبَاعِهِمْ وَالْجَرَيَانِ عَلَى سُنَنِهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، وَتَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ؛ فَإِنَّهَا عَاضِدَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْجُمْلَةِ أَمَّا إِذَا عُلِمَ أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى ذَيْنِكَ الْأَمْرَيْنِ؛ فَهُمْ وَمَنْ سِوَاهُمْ فِيهِ شَرْعٌ سَوَاءٌ؛ كَمَسْأَلَةِ الْعَوْلِ، وَالْوُضُوءِ مِنَ النَّوْمِ، وَكَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الرِّبَا الَّتِي قَالَ فِيهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا آيَةَ الرِّبَا؛ فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ، أَوْ كَمَا قَالَ؛ فَمِثْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ لِلْجَمِيعِ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الصَّحَابَةُ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ وَرَأْيَهُ حُجَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا وَيَعْمَلُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ؛ كَالْأَحَادِيثِ وَالِاجْتِهَادَاتِ النَّبَوِيَّةِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ؛ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِهِ هَاهُنَا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} الْآيَةَ [الْمَائِدَة: 3] وَقَوْلِه: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 138] وَقَوْلِه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النَّحْل: 44] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [الْبَقَرَة: 2]، {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لُقْمَانَ: 3] وَإِنَّمَا كَانَ هُدًى لِأَنَّهُ مُبَيَّنٌ، وَالْمُجْمَلُ لَا يَقَعُ بِهِ بَيَانٌ، وَكُلُّ مَا فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي الْحَدِيث: «تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاء: لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا وَفِيه: تَرَكْتُ فِيكُمُ اثْنَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا؛ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي» وَيُصَحِّحُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النِّسَاء: 59] وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا بَيَانٌ لِكُلِّ مُشْكِلٍ، وَمَلْجَأٌ مِنْ كُلِّ مُعْضِلٍ. وَفِي الْحَدِيث: «: مَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَلَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنْهُ إِلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ». وَهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ، فَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ مُجْمَلٌ؛ فَقَدْ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ كَبَيَانِهِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي مَوَاقِيتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَسَائِرِ أَحْكَامِهَا، وَلِلزَّكَاةِ وَمَقَادِيرِهَا وَأَوْقَاتِهَا وَمَا تُخْرَجُ مِنْهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَلِلْحَجِّ إِذْ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ثُمَّ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، وَالْجَمِيعُ بَيَانٌ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ وُجِدَ فِي الشَّرِيعَةِ مُجْمَلٌ، أَوْ مُبْهَمُ الْمَعْنَى، أَوْ مَا لَا يُفْهَمُ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُكَلَّفَ بِمُقْتَضَاهُ لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ، وَطَلَبُ مَا لَا يُنَالُ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ هَذَا الْإِجْمَالُ فِي الْمُتَشَابِهِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيه: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مُتَشَابِهًا؛ بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَكْلِيفٌ إِلَّا الْإِيمَانُ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْهُ، لَا عَلَى مَا يَفْهَمُ الْمُكَلَّفُ مِنْهُ؛ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} إِلَى قَوْلِه: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آلِ عِمْرَانَ: 7] وَالنَّاسُ فِي الْمُتَشَابِهِ الْمُرَادِ هَاهُنَا عَلَى مَذْهَبَيْن: فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَهُ؛ فَلَيْسَ بِمُتَشَابِهٍ عَلَيْهِمْ وَإِنْ تَشَابَهَ عَلَى غَيْرِهِمْ، كَسَائِرِ الْمُبَيِّنَاتِ الْمُشْتَبِهَةِ عَلَى غَيْرِ الْعَرَبِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ النَّاسِ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَهُ وَإِنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِه: {إِلَّا اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 7]؛ فَالتَّكْلِيفُ بِمَا يُرَادُ بِهِ مَرْفُوعٌ بِاتِّفَاقٍ؛ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مُجْمَلٌ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ ثُمَّ يُكَلَّفُ بِهِ، وَهَكَذَا إِذَا قُلْنَا: إِنِ الرَّاسِخِينَ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِعِلْمِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ فَذَلِكَ الْغَيْرُ لَيْسُوا بِمُكَلَّفِينَ بِمُقْتَضَاهُ، مَا دَامَ مُشْتَبِهًا عَلَيْهِمْ؛ حَتَّى يَتَبَيَّنَ بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَرْتَفِعُ تَشَابُهُهُ؛ فَيَصِيرُ كَسَائِرِ الْمُبَيَّنَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أَثْبَتَ الْقُرْآنُ مُتَشَابِهًا فِي الْقُرْآنِ، وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّ فِي الشَّرِيعَةِ مُشْتَبِهَاتٍ بِقَوْلِه: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ» وَهَذِهِ الْمُشْتَبِهَاتُ مُتَّقَاةٌ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ لِقَوْلِه: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهُ»؛ فَهِيَ إِذًا مُجْمَلَاتٌ وَقَدِ انْبَنَى عَلَيْهَا التَّكْلِيفُ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] قَدَ انْبَنَى عَلَيْهَا التَّكْلِيفُ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آلِ عِمْرَانَ: 7] فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ الْإِجْمَالَ وَالتَّشَابُهَ لَا يَتَعَلَّقَانِ بِمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ تَكْلِيفٌ؟ فَالْجَوَابُ: إِنَّ الْحَدِيثَ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي التَّشَابُهِ الْوَاقِعِ فِي خِطَابِ الشَّارِعِ، وَتَشَابُهِ الْحَدِيثِ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ حَسْبَمَا مَرَّ فِي فَصْلِ التَّشَابُهِ، وَإِنْ سَلِمَ؛ فَالْمُرَادُ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ تَكْلِيفٌ بِمَعْنَاهُ الْمُرَادِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُجْمَلٌ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤْمِنَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَبِأَنْ يَجْتَنِبَ فِعْلَهُ إِنْ كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» وَيَجْتَنِبَ النَّظَرَ فِيهِ إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَقَوْلِه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وَفِي الْحَدِيث: «يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا» وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ هَذَا مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ، وَإِلَّا؛ فَالتَّكْلِيفُ مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ مَوْجُودٍ مِنْ حَيْثُ يُعْتَقَدُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، أَوْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ إِنْ صَحَّ تَصَرُّفَ الْعِبَادِ فِيهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ النَّظَرِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ مِنَ الْخِطَابِ الْوَارِدِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ تَفْهِيمُ مَا لَهُمْ وَمَا عَلَيْهِمْ، مِمَّا هُوَ مَصْلَحَةٌ لَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ بَيِّنًا وَاضِحًا لَا إِجْمَالَ فِيهِ وَلَا اشْتِبَاهَ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ بِحَسَبِ هَذَا الْقَصْدِ اشْتِبَاهٌ وَإِجْمَالٌ؛ لَنَاقَضَ أَصْلَ مَقْصُودِ الْخِطَابِ، فَلَمْ تَقَعْ فَائِدَةٌ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ مِنْ جِهَةِ رَعْيِ الْمَصَالِحِ؛ تَفَضُّلًا أَوِ انْحِتَامًا، أَوْ عَدَمِ رَعْيِهَا؛ إِذْ لَا يُعْقَلُ خِطَابٌ مَقْصُودٌ مِنْ غَيْرِ تَفْهِيمٍ مَقْصُودٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى امْتِنَاعِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَّةِ إِلَّا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ امْتِنَاعِ تَكْلِيفِ الْمُحَالِ سَمْعًا فَبَقِيَ الِاعْتِرَافُ بِامْتِنَاعِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ؛ فَمَسْأَلَتُنَا مِنْ قَبِيلِ هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ خِطَابَ التَّكْلِيفِ فِي وُرُودِهِ مُجْمَلًا غَيْرَ مُفَسَّرٍ، إِمَّا أَنْ يُقْصَدَ التَّكْلِيفُ بِهِ مَعَ عَدَمِ بَيَانِهِ، أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ؛ فَذَلِكَ مَا أَرَدْنَا، وَإِنْ قُصِدَ؛ رَجَعَ إِلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَجَرَتْ دَلَائِلُ الْأُصُولِيِّينَ هُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَعْنِي: الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ إِنْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مُجْمَلٌ؛ فَلَابُدَّ مِنْ خُرُوجِ مَعْنَاهُ عَنْ تَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِهِ، وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ مِنْهُ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَهِيَ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالرَّأْيُ وَلَمَّا كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ هُمَا الْأَصْلُ لِمَا سِوَاهُمَا؛ اقْتَصَرْنَا عَلَى النَّظَرِ فِيهِمَا. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ فِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ كَثِيرًا مِمَّا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ النَّاظِرُ فِي غَيْرِهِمَا، مَعَ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ تَكَفَّلُوا بِمَا عَدَاهُمَا كَمَا تَكَفَّلُوا بِهِمَا؛ فَرَأَيْنَا السُّكُوتَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الْإِجْمَاعِ وَالرَّأْيِ، وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
فَالْأَوَّلُ أَصْلُهَا، وَهُوَ الْكِتَابُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِنَّ الْكِتَابَ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ كُلِّيَّةُ الشَّرِيعَةِ وَعُمْدَةُ الْمِلَّةِ، وَيَنْبُوعُ الْحِكْمَةِ، وَآيَةُ الرِّسَالَةِ، وَنُورُ الْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ، وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى اللَّهِ سِوَاهُ، وَلَا نَجَاةَ بِغَيْرِهِ، وَلَا تَمَسُّكَ بِشَيْءٍ يُخَالِفُهُ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيرٍ وَاسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لَزِمَ ضَرُورَةً لِمَنْ رَامَ الِاطِّلَاعَ عَلَى كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ وَطَمِعَ فِي إِدْرَاكِ مَقَاصِدِهَا، وَاللِّحَاقِ بِأَهْلِهَا، أَنْ يَتَّخِذَهُ سَمِيرَهُ وَأَنِيسَهُ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ جَلِيسَهُ عَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي نَظَرًا وَعَمَلًا، لَا اقْتِصَارًا عَلَى أَحَدِهِمَا؛ فَيُوشِكُ أَنْ يَفُوزَ بِالْبُغْيَةِ، وَأَنْ يَظْفَرَ بِالطُّلْبَةِ، وَيَجِدَ نَفْسَهُ مِنَ السَّابِقِينَ وَفِي الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ زَوَالِ مَا يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْكِتَابِ، وَإِلَّا فَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ السَّابِقِينَ، وَالسَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ آخِذٌ بِيَدِهِ فِي هَذَا الْمَقْصِدِ الشَّرِيفِ، وَالْمَرْتَبَةِ الْمُنِيفَةِ. وَأَيْضًا؛ فَمِنْ حَيْثُ كَانَ الْقُرْآنُ مُعْجِزًا أَفْحَمَ الْفُصَحَاءَ، وَأَعْجَزَ الْبُلَغَاءَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ؛ فَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا جَارِيًا عَلَى أَسَالِيبِ كَلَامِ الْعَرَبِ، مُيَسَّرًا لِلْفَهْمِ فِيهِ عَنِ اللَّهِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى، لَكِنْ بِشَرْطِ الدُّرْبَةِ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، كَمَا تَبَيَّنَ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ؛ إِذْ لَوْ خَرَجَ بِالْإِعْجَازِ عَنْ إِدْرَاكِ الْعُقُولِ مَعَانِيهِ؛ لَكَانَ خِطَابُهُمْ بِهِ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَذَلِكَ مَرْفُوعٌ عَنِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْوُجُوهِ الْإِعْجَازِيَّةِ فِيهِ؛ إِذْ مِنَ الْعَجَبِ إِيرَادُ كَلَامٍ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ الْبَشَرِ فِي اللِّسَانِ وَالْمَعَانِي وَالْأَسَالِيبِ، مَفْهُومٌ مَعْقُولٌ، ثُمَّ لَا يَقْدِرُ الْبَشَرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَلَوِ اجْتَمَعُوا وَكَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا فَهُمْ أَقْدَرُ مَا كَانُوا عَلَى مُعَارَضَةِ الْأَمْثَالِ أَعْجَزُ مَا كَانُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [الْقَمَر: 17] وَقَالَ: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مَرْيَمَ: 97] وَقَالَ: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فُصِّلَتْ: 3] وَقَالَ: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشُّعَرَاء: 195] وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ فُرِضَ إِعْجَازُهُ؛ فَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى فَهْمِهِ وَتَعَقُّلِ مَعَانِيهِ، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] فَهَذَا يَسْتَلْزِمُ إِمْكَانَ الْوُصُولِ إِلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّفَهُّمِ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِثْلَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
مَعْرِفَةُ أَسْبَابِ التَّنْزِيلِ لَازِمَةٌ لِمَنْ أَرَادَ عِلْمَ الْقُرْآنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَان: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عِلْمَ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ إِعْجَازُ نَظْمِ الْقُرْآنِ فَضْلًا عَنْ مَعْرِفَةِ مَقَاصِدِ كَلَامِ الْعَرَبِ؛ إِنَّمَا مَدَارُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَحْوَال: حَالِ الْخِطَابِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِ الْخِطَابِ، أَوِ الْمُخَاطَبِ، أَوِ الْمُخَاطِبِ، أَوِ الْجَمِيعِ؛ إِذِ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ يَخْتَلِفُ فَهْمُهُ بِحَسَبِ حَالَيْنِ، وَبِحَسَبِ مُخَاطَبَيْنِ، وَبِحَسَبِ غَيْرِ ذَلِكَ؛ كَالِاسْتِفْهَامِ، لَفْظُهُ وَاحِدٌ، وَيَدْخُلُهُ مَعَانٍ أُخَرُ مِنْ تَقْرِيرٍ وَتَوْبِيخٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَالْأَمْرِ يَدْخُلُهُ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ وَالتَّهْدِيدِ وَالتَّعْجِيزِ وَأَشْبَاهِهَا وَلَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهَا الْمُرَادِ إِلَّا الْأُمُورُ الْخَارِجَةُ، وَعُمْدَتُهَا مُقْتَضَيَاتُ الْأَحْوَالِ، وَلَيْسَ كُلُّ حَالٍ يُنْقَلُ وَلَا كُلُّ قَرِينَةٍ تَقْتَرِنُ بِنَفْسِ الْكَلَامِ الْمَنْقُولِ، وَإِذَا فَاتَ نَقْلُ بَعْضِ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ؛ فَاتَ فَهْمُ الْكَلَامِ جُمْلَةً، أَوْ فَهْمُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَمَعْرِفَةُ الْأَسْبَابِ رَافِعَةٌ لِكُلِّ مُشْكِلٍ فِي هَذَا النَّمَطِ؛ فَهِيَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ بِلَابُدَّ وَمَعْنَى مَعْرِفَةِ السَّبَبِ هُوَ مَعْنَى مَعْرِفَةِ مُقْتَضَى الْحَالِ، وَيَنْشَأُ عَنْ هَذَا الْوَجْه: الْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْجَهْلَ بِأَسْبَابِ التَّنْزِيلِ مُوقِعٌ فِي الشُّبَهِ وَالْإِشْكَالَاتِ، وَمُورِدٌ لِلنُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ مَوْرِدَ الْإِجْمَالِ حَتَّى يَقَعَ الِاخْتِلَافُ، وَذَلِكَ مَظِنَّةُ وُقُوعِ النِّزَاعِ. وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ: خَلَا عُمَرُ ذَاتَ يَوْمٍ؛ فَجَعَلَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ: كَيْفَ تَخْتَلِفُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ، وَقِبْلَتُهَا وَاحِدَةٌ؟ فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ؛ فَقَالَ: كَيْفَ تَخْتَلِفُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ وَقِبْلَتُهَا وَاحِدَةٌ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْقُرْآنُ فَقَرَأْنَاهُ، وَعَلِمْنَا فِيمَ نَزَلَ، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدَنَا أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَلَا يَدْرُونَ فِيمَ نَزَلَ، فَيَكُونُ لَهُمْ فِيهِ رَأْيٌ، فَإِذَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ رَأْيٌ اخْتَلَفُوا، فَإِذَا اخْتَلَفُوا اقْتَتَلُوا قَالَ: فَزَجَرَهُ عُمَرُ وَانْتَهَرَهُ؛ فَانْصَرَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَنَظَرَ عُمَرُ فِيمَا قَالَ؛ فَعَرَفَهُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ؛ فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ مَا قُلْتَ فَأَعَادَهُ عَلَيْهِ؛ فَعَرَفَ عُمَرُ قَوْلَهُ وَأَعْجَبَهُ وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ فِي الِاعْتِبَارِ وَيَتَبَيَّنُ بِمَا هُوَ أَقْرَبُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ بُكَيْرٍ؛ أَنَّهُ سَأَلَ نَافِعًا: كَيْفَ كَانَ رَأْيُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْحَرُورِيَّةِ؟ قَالَ: يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ، إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ أُنْزِلَتْ فِي الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. فَهَذَا مَعْنَى الرَّأْيِ الَّذِي نَبَّهَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ النَّاشِئُ عَنِ الْجَهْلِ بِالْمَعْنَى الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ. وَرُوِيَ أَنَّ مَرْوَانَ أَرْسَلَ بَوَّابَهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ: قُلْ لَهُ لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا؛ لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ الْآيَةِ؟ إِنَّمَا دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَأَرَوْهُ أَنْ قَدِ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ بِمَا أَخْبَرُوهُ عَنْهُ فِيمَا سَأَلَهُمْ، وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنْ كِتْمَانِهِمْ ثُمَّ قَرَأَ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} إِلَى قَوْلِه: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 187- 188] فَهَذَا السَّبَبُ بَيِّنٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ غَيْرُ مَا ظَهَرَ لِمَرْوَانَ. وَالْقُنُوتُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا مِنَ الْمَعْنَى يُحْمَلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [الْبَقَرَة: 238] فَإِذَا عُرِفَ السَّبَبُ تَعَيَّنَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ اسْتَعْمَلَ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ عَلَى الْبَحْرَيْنِ؛ فَقَدِمَ الْجَارُودُ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ: إِنْ قُدَامَةَ شَرِبَ فَسَكِرَ فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ يَشْهَدْ عَلَى مَا تَقُولُ؟ قَالَ الْجَارُودُ: أَبُو هُرَيْرَةَ يَشْهَدُ عَلَى مَا أَقُولُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ؛ فَقَالَ عُمَرُ: يَا قُدَامَةُ! إِنِّي جَالِدُكَ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ شَرِبْتُ كَمَا يَقُولُونَ مَا كَانَ لَكَ أَنْ تَجْلِدَنِي قَالَ عُمَرُ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} [الْمَائِدَة: 93] إِلَخْ: فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّكَ أَخْطَأْتَ التَّأْوِيلَ يَا قُدَامَةَ، إِذَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ اجْتَنَبْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهَ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ لِمَ تَجْلِدُنِي؟ بَيْنِي وَبَيْنَكَ كِتَابُ اللَّهِ فَقَالَ عُمَرُ وَأَيُّ كِتَابِ اللَّهِ تَجِدُ أَنْ لَا أَجْلِدُكَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [الْمَائِدَة: 93] إِلَى آخَرَ الْآيَةِ فَأَنَا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَالْمَشَاهِدَ فَقَالَ عُمَرُ: أَلَا تَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ أُنْزِلْنَ عُذْرًا لِلْمَاضِينَ، وَحُجَّةً عَلَى الْبَاقِينَ، فَعَذَرَ الْمَاضِينَ بِأَنَّهُمْ لَقُوا اللَّهَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ عَلَيْهِمُ الْخَمْرُ وَحُجَّةً عَلَى الْبَاقِينَ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [الْمَائِدَة: 90] ثُمَّ قَرَأَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ الْأُخْرَى فَإِنْ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَى أَنْ يُشْرَبَ الْخَمْرُ قَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ الْحَدِيثَ وَحَكَى إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي قَالَ: شَرِبَ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ الْخَمْرَ، وَعَلَيْهِمْ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالُوا: هِيَ لَنَا حَلَالٌ، وَتَأَوَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} الْآيَةَ [الْمَائِدَة: 93] قَالَ: فَكَتَبَ فِيهِمْ إِلَى عُمَرَ، قَالَ: فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَيْه: أَنِ ابْعَثْ بِهِمْ إِلَيَّ قَبْلَ أَنْ يُفْسِدُوا مَنْ قِبَلَكَ فَلَمَّا أَنْ قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ اسْتَشَارَ فِيهِمُ النَّاسَ؛ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! نَرَى أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ، وَشَرَعُوا فِي دِينِهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. فَفِي الْحَدِيثَيْنِ بَيَانٌ أَنَّ الْغَفْلَةَ عَنْ أَسْبَابِ التَّنْزِيلِ تُؤَدِّي إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ الْمَقْصُودِ بِالْآيَاتِ. وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ؛ فَقَالَ: تَرَكْتُ فِي الْمَسْجِدِ رَجُلًا يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِ، يُفَسِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدُّخَان: 10] قَالَ يَأْتِي النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دُخَانٌ، فَيَأْخُذُ بِأَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَأْخُذَهُمْ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ عَلِمَ عِلْمًا فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: اللَّهُ أَعْلَمُ؛ فَإِنَّ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِه: اللَّهُ أَعْلَمُ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا لِأَنَّ قُرَيْشًا اسْتَعْصَوْا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ؛ فَأَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجَهْدٌ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الْجَهْدِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ} الْآيَةَ [الدُّخَان: 10] إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. وَهَكَذَا شَأْنُ أَسْبَابِ النُّزُولِ فِي التَّعْرِيفِ بِمَعَانِي الْمُنَزَّلِ، بِحَيْثُ لَوْ فُقِدَ ذِكْرُ السَّبَبِ؛ لَمْ يُعْرَفْ مِنَ الْمُنَزَّلِ مَعْنَاهُ عَلَى الْخُصُوصِ، دُونَ تَطَرُّقِ الِاحْتِمَالَاتِ وَتَوَجُّهِ الْإِشْكَالَاتِ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ»، وَقَدْ قَالَ فِي خُطْبَةٍ خَطَبَهَا: وَاللَّهِ؛ لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي مِنْ أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ؛ مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ أُنْزِلَتْ، وَلَا أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ؟ وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ عِلْمَ الْأَسْبَابِ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي يَكُونُ الْعَالِمُ بِهَا عَالِمًا بِالْقُرْآنِ. وَعَنِ الْحَسَنِ؛ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً؛ إِلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ فِيمَ أُنْزِلَتْ؟ وَمَا أَرَادَ بِهَا؟ وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَوْضِعِ مُشِيرٌ إِلَى التَّحْرِيضِ عَلَى تَعَلُّمِ عِلْمِ الْأَسْبَابِ. وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: سَأَلْتُ عُبَيْدَةَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ؛ فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ، وَعَلَيْكَ بِالسَّدَادِ؛ فَقَدْ ذَهَبَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ فِيمَ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ وَعَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَهُوَ ظَاهِرٌ بِالْمُزَاوَلَةِ لِعِلْمِ التَّفْسِيرِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَعْرِفَةُ عَادَاتِ الْعَرَبِ فِي أَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا وَمَجَارِي أَحْوَالِهَا حَالَةَ التَّنْزِيلِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ سَبَبٌ خَاصٌّ لَابُدَّ لِمَنْ أَرَادَ الْخَوْضَ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ مِنْهُ، وَإِلَّا وَقَعَ فِي الشُّبَهِ وَالْإِشْكَالَاتِ الَّتِي يُتَعَذَّرُ الْخُرُوجُ مِنْهَا إِلَّا بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَيَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ الْمَقَاصِدِ؛ فَإِنَّ فِيهِ مَا يُثْلِجُ الصَّدْرَ وَيُورِثُ الْيَقِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَلَابُدَّ مِنْ ذِكْرِ أَمْثِلَةٍ تُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْمُرَادِ وَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا: أَحَدُهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [الْبَقَرَة: 196] فَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْإِتْمَامِ دُونَ الْأَمْرِ بِأَصْلِ الْحَجِّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ آخِذِينَ بِهِ، لَكِنْ عَلَى تَغْيِيرِ بَعْضِ الشَّعَائِرِ، وَنَقْصِ جُمْلَةٍ مِنْهَا؛ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا غَيَّرُوا، فَجَاءَ الْأَمْرُ بِالْإِتْمَامِ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا جَاءَ إِيجَابُ الْحَجِّ نَصًّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آلِ عِمْرَانَ: 97] وَإِذَا عُرِفَ هَذَا تَبَيَّنَ هَلْ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى إِيجَابِ الْحَجِّ أَوْ إِيجَابِ الْعُمْرَةِ، أَمْ لَا؟ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [الْبَقَرَة: 286] نُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ ذَلِكَ فِي الشِّرْكِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ فَيُرِيدُ أَحَدُهُمُ التَّوْحِيدَ فِيهِمْ فَيُخْطِئُ بِالْكُفْرِ؛ فَعَفَا لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ كَمَا عَفَا لَهُمْ عَنِ النُّطْقِ بِالْكُفْرِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، قَالَ فَهَذَا عَلَى الشِّرْكِ، لَيْسَ عَلَى الْأَيْمَانِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، لَمْ تَكُنِ الْأَيْمَانُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي زَمَانِهِمْ وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النَّحْل: 50] {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [تَبَارَكَ: 16] وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، إِنَّمَا جَرَى عَلَى مُعْتَادِهِمْ فِي اتِّخَاذِ الْآلِهَةِ فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِإِلَهِيَّةِ الْوَاحِدِ الْحَقِّ؛ فَجَاءَتِ الْآيَاتُ بِتَعْيِينِ الْفَوْقِ وَتَخْصِيصِهِ تَنْبِيهًا عَلَى نَفْيِ مَا ادَّعَوْهُ فِي الْأَرْضِ؛ فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ جِهَةٍ أَلْبَتَّةَ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النَّحْل: 26] فَتَأَمَّلْهُ وَاجْرِ عَلَى هَذَا الْمَجْرَى فِي سَائِرِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ. 0 وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النَّجْم: 49] فَعَيَّنَ هَذَا الْكَوْكَبَ لِكَوْنِ الْعَرَبِ عَبَدَتْهُ، وَهُمْ خُزَاعَةُ ابْتَدَعَ ذَلِكَ لَهُمْ أَبُو كَبْشَةَ، وَلَمْ تَعْبُدِ الْعَرَبُ مِنَ الْكَوَاكِبِ غَيْرَهَا؛ فَلِذَلِكَ عُيِّنَتْ.
وَقَدْ يُشَارِكُ الْقُرْآنَ فِي هَذَا الْمَعْنَى السُّنَّةُ؛ إِذْ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَقَعَتْ عَلَى أَسْبَابٍ، وَلَا يَحْصُلُ فَهْمُهَا إِلَّا بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَمِنْهُ أَنَّهُ نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ قِيلَ لَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ بِضَحَايَاهُمْ، وَيَحْمِلُونَ مِنْهَا الْوَدَكَ، وَيَتَّخِذُونَ مِنْهَا الْأَسْقِيَةَ فَقَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟» قَالُوا: نَهَيْتَ عَنْ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ عَلَيْكُمْ؛ فَكُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَادَّخِرُوا» وَمِنْهُ حَدِيثُ التَّهْدِيدِ بِإِحْرَاقِ الْبُيُوتِ لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ يُبَيِّنُ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ النِّفَاقِ، بِقَوْلِه: وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ وَحَدِيثُ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَاقِعٌ عَنْ سَبَبٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِالْهِجْرَةِ هَاجَرَ نَاسٌ لِلْأَمْرِ وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ هَاجَرَ بِسَبَبِ امْرَأَةٍ أَرَادَ نِكَاحَهَا تُسَمَّى أُمُّ قَيْسٍ، وَلَمْ يَقْصِدْ مُجَرَّدَ الْهِجْرَةِ لِلْأَمْرِ؛ فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يُسَمَّى: مُهَاجِرَ أُمِّ قَيْسٍ وَهُوَ كَثِيرٌ.
كُلُّ حِكَايَةٍ وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقَعَ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا وَهُوَ الْأَكْثَرُ رَدٌّ لَهَا أَوْ لَا، فَإِنْ وَقَعَ رَدٌّ فَلَا إِشْكَالَ فِي بُطْلَانِ ذَلِكَ الْمَحْكِيِّ وَكَذِبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مَعَهَا رَدٌّ فَذَلِكَ دَلِيلُ صِحَّةِ الْمَحْكِيِّ وَصِدْقِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَظَاهِرٌ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى بُرْهَانٍ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَام: 91] فَأَعْقَبَ بِقَوْلِه: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 91] وَقَالَ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 136] فَوَقَعَ التَّنْكِيتُ عَلَى افْتِرَاءِ مَا زَعَمُوا بِقَوْلِه: بِزَعْمِهِمْ [الْأَنْعَام: 138] وَبِقَوْلِه: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الْأَنْعَام: 136] ثُمَّ قَالَ: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الْأَنْعَام: 138] إِلَى تَمَامِهِ وَرُدَّ بِقَوْلِه: {سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الْأَنْعَام: 138] ثُمَّ قَالَ: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 139] فَنَبَّهَ عَلَى فَسَادِهِ بِقَوْلِه: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الْأَنْعَام: 139] زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الْفَرْقَان: 4] فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِه: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الْفَرْقَان: 4] ثُمَّ قَالَ: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} الْآيَةَ [الْفَرْقَان: 5] فَرَدَّ بِقَوْلِه: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} الْآيَةَ [الْفَرْقَان: 6] ثُمَّ قَالَ: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الْفَرْقَان: 8] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا} [الْفَرْقَان: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} إِلَى قَوْلِه: {أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص: 48] ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِه: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} [ص: 8] إِلَى آخِرِ مَا هُنَالِكَ. وَقَال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الْبَقَرَة: 116، وَغَيْرِهَا] ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَوْجُهٍ كَثِيرَةٍ ثَبَتَتْ فِي أَثْنَاءِ الْقُرْآنِ؛ كَقَوْلِه: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الْأَنْبِيَاء: 26] وَقَوْلِه: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الْبَقَرَة: 116] وَقَوْلِه: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} الْآيَةَ [يُونُسَ: 68] وَقَوْلِه: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ} [مَرْيَمَ: 90] إِلَى آخِرِهِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَأَحْضَرَهُ فِي ذِهْنِهِ عَرَفَ هَذَا بِيُسْرٍ. وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَظَاهِرٌ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ نَفْسِ الْحِكَايَةِ وَإِقْرَارِهَا، فَإِنَّ الْقُرْآنَ سُمِّيَ فُرْقَانًا، وَهُدًى، وَبُرْهَانًا، وَبَيَانًا، وَتِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْخَلْقِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ وَالْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَأْبَى أَنْ يُحْكَى فِيهِ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ ثُمَّ لَا يُنَبَّهُ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا يُحْكَى فِيهِ مِنْ شَرَائِعِ الْأَوَّلِينَ وَأَحْكَامِهِمْ، وَلَمْ يُنَبَّهْ عَلَى إِفْسَادِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ فِيهِ؛ فَهُوَ حَقٌّ يُجْعَلُ عُمْدَةً عِنْدَ طَائِفَةٍ فِي شَرِيعَتِنَا، وَيَمْنَعُهُ قَوْمٌ، لَا مِنْ جِهَةِ قَدْحٍ فِيهِ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَلِكَ؛ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ كَشَرِيعَتِنَا، وَلَا يَفْتَرِقُ مَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِحُكْمِ النَّسْخِ فَقَطْ، وَلَوْ نَبَّهَ عَلَى أَمْرٍ فِيهِ لَكَانَ فِي حُكْمِ التَّنْبِيهِ عَلَى الْأَوَّلِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 75] وَقَوْلِه: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} الْآيَةَ [الْمَائِدَة: 41] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النِّسَاء: 46] فَصَارَ هَذَا مِنَ النَّمَطِ الْأَوَّلِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْقِسْمِ جَمِيعُ مَا حُكِيَ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ مِمَّا كَانَ حَقًّا؛ كَحِكَايَتِهِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَمِنْهُ قِصَّةُ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَقِصَّةُ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِصَّةُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ.
وَلِاطِّرَادِ هَذَا الْأَصْلِ اعْتَمَدَهُ النُّظَّارُ؛ فَقَدِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْفُرُوعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} الْآيَةَ [الْمُدَّثِّر: 43- 44] إِذْ لَوْ كَانَ قَوْلُهُمْ بَاطِلًا لَرُدَّ عِنْدَ حِكَايَتِهِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَكَى مِنْ قَوْلِهِمْ أَنَّهُمْ: {ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الْكَهْف: 22] وَأَنَّهُمْ {خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الْكَهْف: 22] أَعْقَبَ ذَلِكَ بِقَوْلِه: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الْكَهْف: 22] أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ وَلَا عِلْمٌ غَيْرُ اتِّبَاعِ الظَّنِّ، وَرَجْمُ الظُّنُونِ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، وَلَمَّا حَكَى قَوْلَهُمْ: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الْكَهْف: 22] لَمْ يُتْبِعْهُ بِإِبْطَالٍ بَلْ قَالَ: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الْكَهْف: 22]؛ دَلَّ الْمَسَاقُ عَلَى صِحَّتِهِ دُونَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَنَا مِنْ ذَلِكَ الْقَلِيلِ الَّذِي يَعْلَمُهُمْ. وَرَأَيْتُ مَنْقُولًا عَنْ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [الْبَقَرَة: 260] فَقِيلَ لَهُ: أَكَانَ شَاكًّا حِينَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ آيَةً؟ فَقَالَ: لَا، وَإِنَّمَا كَانَ طَلَبُ زِيَادَةِ إِيمَانٍ إِلَى إِيمَانٍ أَلَا تَرَاهُ قَالَ: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} [الْبَقَرَة: 260] فَلَوْ عَلِمَ شَكًّا مِنْهُ لَأَظْهَرَ ذَلِكَ؛ فَصَحَّ أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ كَانَتْ عَلَى مَعْنَى الزِّيَادَةِ فِي الْإِيمَانِ. بِخِلَافِ مَا حَكَى اللَّهُ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْأَعْرَابِ فِي قَوْلِه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} [الْحُجُرَات: 14] فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِه: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الْحُجُرَات: 14] وَمَنْ تَتَبَّعَ مَجَارِيَ الْحِكَايَاتِ فِي الْقُرْآنِ عَرَفَ مَدَاخِلَهَا، وَمَا هُوَ مِنْهَا حَقٌّ مِمَّا هُوَ بَاطِلٌ. فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [الْمُنَافِقُونَ: 1] إِلَى آخِرِهَا فَإِنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ مَمْزُوجَةُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ فَظَاهِرُهَا حَقٌّ وَبَاطِنُهَا كَذِبٌ، مِنْ حَيْثُ كَانَ إِخْبَارًا عَنِ الْمُعْتَقَدِ وَهُوَ غَيْرُ مُطَابِقٍ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [الْمُنَافِقُونَ: 1] تَصْحِيحًا لِظَاهِرِ الْقَوْلِ، وَقَالَ: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [الْمُنَافِقُونَ: 1] إِبْطَالًا لِمَا قَصَدُوا بِهِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الْآيَةَ [الزُّمَر: 67] وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ يَهُودِيٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: «حَدِّثْنَا يَا يَهُودِيُّ» فَقَالَ: كَيْفَ تَقُولُ يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ عَلَى ذِهْ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى ذِهْ، وَالْمَاءَ عَلَى ذِهْ، وَالْجِبَالَ عَلَى ذِهْ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى ذِهْ؟ وَأَشَارَ الرَّاوِي بِخِنْصَرِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ تَابَعَ حَتَّى بَلَغَ الْإِبْهَامَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزُّمَر: 67] وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: جَاءَ يَهُودِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ عَلَى أُصْبُعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى أُصْبُعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى أُصْبُعٍ، وَالْخَلَائِقَ عَلَى أُصْبُعٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ قَالَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزُّمَر: 67] وَفِي رِوَايَةٍ: فَضَحِكَ النَّبِيُّ تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا. وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ كَأَنَّهُ مُفَسِّرٌ لِهَذَا، وَبِمَعْنَاهُ يَتَبَيَّنُ مَعْنَى قَوْلِه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزُّمَر: 67]؛ فَإِنَّ الْآيَةَ بَيَّنَتْ أَنَّ كَلَامَ الْيَهُودِيِّ حَقٌّ فِي الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزُّمَر: 67] وَأَشَارَتْ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَأَدَّبْ مَعَ الرُّبُوبِيَّةِ وَذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَعْنَى الْأَصَابِعِ بِأَصَابِعِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلتَّنْزِيهِ لِلْبَارِي سُبْحَانَهُ؛ فَقَالَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزُّمَر: 67] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التَّوْبَة: 61] أَيْ: يَسْمَعُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيمَا هُوَ بَاطِلٌ، وَأَحَقَّ الْحَقَّ؛ فَقَالَ: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ}، {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} الْآيَةَ [التَّوْبَة: 61] وَلَمَّا قَصَدُوا الْإِذَايَةَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التَّوْبَة: 61] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47] فَهَذَا مَنْعُ امْتِنَاعٍ عَنِ الْإِنْفَاقِ بِحُجَّةِ قَصْدِهِمْ فِيهَا الِاسْتِهْزَاءِ؛ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِه: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 47]؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَيْدٌ عَنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَجَوَابُ أَنْفِقُوا أَنْ يُقَالَ: نَعَمْ أَوْ لَا، وَهُوَ الِامْتِثَالُ أَوِ الْعِصْيَانُ، فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَى الِامْتِنَاعِ بِالْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي لَا تُعَارَضُ؛ انْقَلَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَعْرِفُوا؛ إِذْ حَاصِلُهُ أَنَّهُمُ اعْتَرَضُوا عَلَى الْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ بِالْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ شَاءَ أَنْ يُكَلِّفَهُمُ الْإِنْفَاقَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: كَيْفَ يَشَاءُ الطَّلَبُ مِنَّا وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُطْعِمَهُمْ لِأَطْعَمَهُمْ؟ وَهَذَا عَيْنُ الضَّلَالِ فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} إِلَى قَوْلِه: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الْأَنْبِيَاء: 78] فَقَوْلُهُ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الْأَنْبِيَاء: 79] تَقْرِيرٌ لِإِصَابَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ وَإِيمَاءٌ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ فِي دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمُجْتَهِدُ مَعْذُورًا مَأْجُورًا بَعْدَ بَذْلِهِ الْوُسْعَ قَالَ: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الْأَنْبِيَاء: 79] وَهَذَا مِنَ الْبَيَانِ الْخَفِيِّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. قَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ لَوْلَا مَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ؛ لَرَأَيْتُ أَنَّ الْقُضَاةَ قَدْ هَلَكُوا، فَإِنَّهُ أَثْنَى عَلَى هَذَا بِعِلْمِهِ، وَعَذَرَ هَذَا بِاجْتِهَادِهِ وَالنَّمَطُ هُنَا يَتَّسِعُ، وَيَكْفِي مِنْهُ مَا ذُكِرَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَلِلسُّنَّةِ مَدْخَلٌ فِي هَذَا الْأَصْلِ؛ فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُحَصَّلَةَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَسْكُتُ عَمَّا يَسْمَعُهُ أَوْ يَرَاهُ مِنَ الْبَاطِلِ؛ حَتَّى يُغَيِّرَهُ أَوْ يُبَيِّنَهُ إِلَّا إِذَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ بُطْلَانُهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُمْكِنُ السُّكُوتُ إِحَالَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْبَيَانِ فِيهِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْأُصُولِ.
إِذَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ التَّرْغِيبُ قَارَنَهُ التَّرْهِيبُ فِي لَوَاحِقِهِ أَوْ سَوَابِقِهِ أَوْ قَرَائِنِهِ وَبِالْعَكْسِ، وَكَذَلِكَ التَّرْجِيَةُ مَعَ التَّخْوِيفِ، وَمَا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى مِثْلُهُ، وَمِنْهُ ذِكْرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُقَارِنُهُ ذِكْرُ أَهْلِ النَّارِ وَبِالْعَكْسِ؛ لِأَنَّ فِي ذِكْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَعْمَالِهِمْ تَرْجِيَةٌ وَفِي ذِكْرِ أَهْلِ النَّارِ بِأَعْمَالِهِمْ تَخْوِيفًا فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى التَّرْجِيَةِ وَالتَّخْوِيفِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَرْضُ الْآيَاتِ عَلَى النَّظَرِ؛ فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَمْدَ فَاتِحَةَ كِتَابِهِ، وَقَدْ وَقَعَ فِيه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الْفَاتِحَة: 6- 7] إِلَى آخِرِهَا فَجِيءَ بِذِكْرِ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ بُدِئَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ بِذِكْرِهَا أَيْضًا فَقِيلَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ثُمَّ قَالَ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [الْبَقَرَة: 6] ثُمَّ ذُكِرَ بِإِثْرِهِمُ الْمُنَافِقُونَ، وَهُوَ صِنْفٌ مِنَ الْكُفَّارِ فَلَمَّا تَمَّ ذَلِكَ أَعْقَبَ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى ثُمَّ بِالتَّخْوِيفِ بِالنَّارِ، وَبَعْدَهُ بِالتَّرْجِيَةِ؛ فَقَالَ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} إِلَى قَوْلِه: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 24- 25] ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 26]. ثُمَّ ذَكَرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ مِثْلَ هَذَا، وَلَمَّا ذُكِرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ اعْتِدَائِهِمْ وَكُفْرِهِمْ؛ قِيلَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} إِلَى قَوْلِه: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الْبَقَرَة: 62- 81] ثُمَّ ذَكَرَ تَفَاصِيلَ ذَلِكَ الِاعْتِدَاءِ إِلَى أَنْ خَتَمَ بِقَوْلِه: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَة: 102] وَهَذَا تَخْوِيفٌ. ثُمَّ قَالَ {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 103] وَهُوَ تَرْجِيَةٌ ثُمَّ شَرَعَ فِي ذِكْرِ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُخَالِفِينَ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ قَالَ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 112]. ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمُ {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الْبَقَرَة: 121] ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَنِيهِ، وَذَكَرَ فِي أَثْنَائِهَا التَّخْوِيفَ وَالتَّرْجِيَةَ، وَخَتَمَهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَلَا يَطُولُ عَلَيْكَ زَمَانُ إِنْجَازِ الْوَعْدِ فِي هَذَا الِاقْتِرَانِ؛ فَقَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا أَشْيَاءُ مُعْتَرِضَةٌ فِي أَثْنَاءِ الْمَقْصُودِ، وَالرُّجُوعُ بَعْدُ إِلَى مَا تَقَرَّرَ وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ فِي الْمَكِّيَّاتِ نَظِيرُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْمَدَنِيَّات: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الْأَنْعَام: 1] إِلَى قَوْلِه: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الْأَنْعَام: 1] وَذَكَرَ الْبَرَاهِينَ التَّامَّةَ، ثُمَّ أَعْقَبَهَا بِكُفْرِهِمْ وَتَخْوِيفِهِمْ بِسَبَبِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} [الْأَنْعَام: 12] فَأَقْسَمَ بِكَتْبِ الرَّحْمَةِ عَلَى إِنْفَاذِ الْوَعِيدِ عَلَى مَنْ خَالَفَ، وَذَلِكَ يُعْطِي التَّخْوِيفَ تَصْرِيحًا، وَالتَّرْجِيَةَ ضِمْنًا ثُمَّ قَالَ: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الْأَنْعَام: 15] فَهَذَا تَخْوِيفٌ. وَقَالَ: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 16] وَهَذَا تَرْجِيَةٌ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 17] ثُمَّ مَضَى فِي ذِكْرِ التَّخْوِيفِ، حَتَّى قَالَ: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الْأَنْعَام: 32] ثُمَّ قَالَ: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الْأَنْعَام: 36] وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 39] ثُمَّ جَرَى ذِكْرُ مَا يَلِيقُ بِالْمَوْطِنِ إِلَى أَنْ قَالَ {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 48] وَاجْرِ فِي النَّظَرِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، يَلُحْ لَكَ وَجْهُ الْأَصْلِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهِ، وَلَوْلَا الْإِطَالَةُ لَبُسِطَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَقَدْ يَغْلِبُ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ بِحَسَبِ الْمَوَاطِنِ وَمُقْتَضَيَاتِ الْأَحْوَال: فَيَرِدُ التَّخْوِيفُ وَيَتَّسِعُ مَجَالُهُ، لَكِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنَ التَّرْجِيَةِ، كَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ؛ فَإِنَّهَا جَاءَتْ مُقَرِّرَةً لِلْخَلْقِ، وَمُنْكِرَةً عَلَى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَاخْتَرَعَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مَا لَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَيْهِ، وَصَدَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَأَنْكَرَ مَا لَا يُنْكَرُ، وَلَدَّ فِيهِ وَخَاصَمَ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي تَأْكِيدَ التَّخْوِيفِ، وَإِطَالَةَ التَّأْنِيبِ وَالتَّعْنِيفِ؛ فَكَثُرَتْ مُقَدِّمَاتُهُ وَلَوَاحِقُهُ، وَلَمْ يَخْلُ مَعَ ذَلِكَ مِنْ طَرَفِ التَّرْجِيَةِ لِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ مَدْعُوُّونَ إِلَى الْحَقِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الدُّعَاءُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَزِيدُ تَكْرَارٍ إِعْذَارًا وَإِنْذَارًا، وَمَوَاطِنُ الِاغْتِرَارِ يُطْلَبُ فِيهَا التَّخْوِيفُ أَكْثَرَ مِنْ طَلَبِ التَّرْجِيَةِ؛ لِأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ آكَدُ. وَتَرِدُ التَّرْجِيَةُ أَيْضًا وَيَتَّسِعُ مَجَالُهَا، وَذَلِكَ فِي مَوَاطِنِ الْقُنُوطِ وَمَظِنَّتِهِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} الْآيَةَ [الزُّمَر: 53]؛ فَإِنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا؛ فَأَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَلَنَا لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةٌ؛ فَنَزَلَتْ فَهَذَا مَوْطِنُ خَوْفٍ يُخَافُ مِنْهُ الْقُنُوطُ؛ فَجِيءَ فِيهِ بِالتَّرْجِيَةِ غَالِبَةً، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْآيَةُ الْأُخْرَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هُودٍ: 114] وَانْظُرْ فِي سَبَبِهَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَلَمَّا كَانَ جَانِبُ الْإِخْلَالِ مِنَ الْعِبَادِ أَغْلَبَ؛ كَانَ جَانِبُ التَّخْوِيفِ أَغْلَبَ، وَذَلِكَ فِي مَظَانِّهِ الْخَاصَّةِ لَا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ مَظِنَّةُ هَذَا وَلَا هَذَا أَتَى الْأَمْرُ مُعْتَدِلًا، وَقَدْ مَرَّ لِهَذَا الْمَعْنَى بَسْطٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يَطَّرِدُ فَقَدْ يَنْفَرِدُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فَلَا يُؤْتَى مَعَهُ بِالْآخَرِ، فَيَأْتِي التَّخْوِيفُ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيَةٍ، وَبِالْعَكْسِ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الْهَمْزَة: 1- 9] إِلَى آخِرِهَا؛ فَإِنَّهَا كُلَّهَا تَخْوِيفٌ وَقَوْلَهُ: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [الْعَلَق: 6- 19] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَقَوْلَهُ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الْفِيل: 1- 5] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إِلَى قَوْلِه: {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الْأَحْزَاب: 57- 58] وَفِي الطَّرَفِ الْآخَرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضُّحَى: 1- 11] إِلَى آخِرِهَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشَّرْح: 1- 8] إِلَى آخِرِهَا وَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} الْآيَةَ [النُّور: 22]. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْتَقَى هُوَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيُّ آيَةٍ أَرْجَى فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّه: قَوْلُهُ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الْآيَةَ [الزُّمَر: 53] فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَكِنَّ قَوْلَ اللَّه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [الْبَقَرَة: 260] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَضِيَ مِنْهُ بِقَوْلِهِ بَلَى قَالَ فَهَذَا لِمَا يَعْتَرِضُ فِي الصُّدُورِ مِمَّا يُوَسْوِسُ بِهِ الشَّيْطَانُ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: فِي الْقُرْآنِ آيَتَانِ مَا قَرَأَهُمَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ عِنْدَ ذَنْبٍ إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَفَسَّرَ ذَلِكَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} [آلِ عِمْرَانَ: 135] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَقَوْلِه: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النِّسَاء: 110] وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّ فِي النِّسَاءِ خَمْسَ آيَاتٍ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ إِذَا مَرُّوا بِهَا مَا يَعْرِفُونَهَا قَوْلُهُ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 31] وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 40] وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 48] وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 64] وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النِّسَاء: 110] وَأَشْيَاءُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَثِيرَةٌ، إِذَا تُتِبِّعَتْ وُجِدَتْ؛ فَالْقَاعِدَةُ لَا تَطَّرِدُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُقَالُ أَنَّ كُلَّ مَوْطِنٍ لَهُ مَا يُنَاسِبُهُ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ، وَهُوَ الَّذِي يَطَّرِدُ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ، أَمَّا هَذَا التَّخْصِيصُ؛ فَلَا. فَالْجَوَابُ: إِنَّ مَا اعْتُرِضَ بِهِ غَيْرُ صَادٍّ عَنْ سَبِيلِ مَا تَقَدَّمَ وَعَنْهُ جَوَابَان: إِجْمَالِيٌّ، وَتَفْصِيلِيٌّ:. فَالْإِجْمَالِيُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ الْعَامَّ وَالْقَانُونَ الشَّائِعَ هُوَ مَا تَقَدَّمَ؛ فَلَا تَنْقُضُهُ الْأَفْرَادُ الْجُزْئِيَّةُ الْأَقَلِّيَّةُ لِأَنَّ الْكُلِّيَّةَ إِذَا كَانَتْ أَكْثَرِيَّةً فِي الْوَضْعِيَّاتِ انْعَقَدَتْ كُلِّيَّةً، وَاعْتُمِدَتْ فِي الْحُكْمِ بِهَا وَعَلَيْهَا، شَأْنَ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ الْجَارِيَةِ فِي الْوُجُودِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا اعْتُرِضَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ قَلِيلٌ، يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِقْرَاءِ؛ فَلَيْسَ بِقَادِحٍ فِيمَا تَأَصَّلَ. وَأَمَّا التَّفْصِيلِيُّ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الْهُمَزَة: 1] قَضِيَّةُ عَيْنٍ فِي رَجُلٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْكُفَّارِ بِسَبَبِ أَمْرٍ مُعَيَّنٍ، مِنْ هَمْزِهِ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَيْبِهِ إِيَّاهُ؛ فَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ جَزَائِهِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ الْقَبِيحِ، لَا أَنَّهُ أُجْرِيَ مَجْرَى التَّخْوِيفِ؛ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ جَارٍ فِي قَوْلِه: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [الْعَلَق: 6- 7] وَقَوْلِه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الْآيَتَيْنِ [الْأَحْزَاب: 57- 58] جَارٍ عَلَى مَا ذُكِرَ. وَكَذَلِكَ سُورَةُ وَالضُّحَى، وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشَّرْح: 1] غَيْرُ مَا نَحْنُ فِيهِ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالشُّكْرِ لِأَجْلِ مَا أَعْطَاهُ مِنَ الْمِنَحِ. وَقَوْلُهُ: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النُّور: 22] قَضِيَّةُ عَيْنٍ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، نَفَّسَ بِهَا مِنْ كَرْبِهِ فِيمَا أَصَابَهُ بِسَبَبِ الْإِفْكِ الْمُتَقَوَّلِ عَلَى بِنْتِهِ عَائِشَةَ فَجَاءَ هَذَا الْكَلَامُ كَالتَّأْنِيسِ لَهُ وَالْحَضِّ عَلَى إِتْمَامِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَإِدَامَتِهَا بِالْإِنْفَاقِ عَلَى قَرِيبَةِ الْمُتَّصِفِ بِالْمَسْكَنَةِ وَالْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلَكِنْ أَحَبَّ اللَّهُ لَهُ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ وَقَوْلُهُ: لَا تَقْنَطُوا [الزُّمَر: 53] وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا فِي الْمُذَاكَرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَيْسَ مَقْصُودُهُمْ بِذِكْرِ ذَلِكَ النَّقْضَ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ بَلِ النَّظَرَ فِي مَعَانِي آيَاتٍ عَلَى اسْتِقْلَالِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزُّمَر: 53] أُعْقِبَ بِقَوْلِه: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} الْآيَةَ [الزُّمَر: 54] وَفِي هَذَا تَخْوِيفٌ عَظِيمٌ مُهَيِّجٌ لِلْفِرَارِ مِنْ وُقُوعِهِ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ السَّبَبِ مِنْ نُزُولِ الْآيَةِ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ لَا تَقْنَطُوا [الزُّمَر: 53] رَافِعٌ لِمَا تُخُوِّفُوهُ مِنْ عَدَمِ الْغُفْرَانِ لِمَا سَلَفَ. وَقَوْلَهُ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [الْبَقَرَة: 260] نَظَرَ فِي مَعْنَى آيَةٍ فِي الْجُمْلَةِ وَمَا يُسْتَنْبَطُ مِنْهَا، وَإِلَّا؛ فَقَوْلُهُ: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} [الْبَقَرَة: 260] تَقْرِيرٌ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّخْوِيفِ أَنْ لَا يَكُونَ مُؤْمِنًا، فَلَمَّا قَالَ بَلَى حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [آلِ عِمْرَانَ: 135] كَقَوْلِه: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزُّمَر: 53] وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النِّسَاء: 110] دَاخِلٌ تَحْتَ أَصْلِنَا لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ قَوْلِه: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النِّسَاء: 105] {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} إِلَى قَوْلِه: {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [النِّسَاء: 107- 109] وَقَوْلُهُ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا} آتٍ بَعْدَ الْوَعِيدِ عَلَى الْكَبَائِرِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَالِكَ؛ كَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالْحَيْفِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَغَيْرِهِمَا؛ فَذَلِكَ مِمَّا يُرْجَى بِهِ بَعْدَ تَقَدُّمِ التَّخْوِيفِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النِّسَاء: 40] فَقَدْ أُعْقِبَ بِقَوْلِه: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا} الْآيَةَ [النِّسَاء: 42]، وَتَقَدَّمَ قَبْلَهَا قَوْلُهُ: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} إِلَى قَوْلِه: {عَذَابًا مُهِينًا} [النِّسَاء: 37] بَلْ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النِّسَاء: 40] جَمَعَ التَّخْوِيفَ مَعَ التَّرْجِيَةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 64] تَقَدَّمَ قَبْلَهَا وَأَتَى بَعْدَهَا تَخْوِيفٌ عَظِيمٌ؛ فَهُوَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 48] جَامِعٌ لِلتَّخْوِيفِ وَالتَّرْجِيَةِ مِنْ حَيْثُ قَيَّدَ غُفْرَانَ مَا سِوَى الشِّرْكِ بِالْمَشِيئَةِ، وَلَمْ يُرِدِ ابْنُ مَسْعُودٍ بِقَوْلِه: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا أَنَّهَا آيَاتُ تَرْجِيَةٍ خَاصَّةٍ، بَلْ مُرَادُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا كُلِّيَّاتٌ فِي الشَّرِيعَةِ مُحْكَمَاتٌ، قَدِ احْتَوَتْ عَلَى عِلْمٍ كَثِيرٍ، وَأَحَاطَتْ بِقَوَاعِدَ عَظِيمَةٍ فِي الدِّينِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ إِذَا مَرُّوا بِهَا مَا يَعْرِفُونَهَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَجَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ جَارٍ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ مَوْطِنٍ مَا يُنَاسِبُهُ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ إِجْرَاؤُهُ عَلَى الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ لَا أَنَّهُ أُنْزِلَ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَمِنْ هُنَا يُتَصَوَّرُ لِلْعِبَادِ أَنْ يَكُونُوا دَائِرِينَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ دَائِرَةٌ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ عَلَى الْخُصُوصِ؛ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} إِلَى قَوْلِه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 57- 60] وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 218] وَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الْإِسْرَاء: 57] وَهَذَا عَلَى الْجُمْلَةِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ طَرَفُ الِانْحِلَالِ وَالْمُخَالَفَةِ، فَجَانِبُ الْخَوْفِ عَلَيْهِ أَقْرَبُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ طَرَفُ التَّشْدِيدِ وَالِاحْتِيَاطِ؛ فَجَانِبُ الرَّجَاءِ إِلَيْهِ أَقْرَبُ، وَبِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُؤَدِّبُ أَصْحَابَهُ، وَلَمَّا غَلَبَ عَلَى قَوْمٍ جَانِبُ الْخَوْفِ قِيلَ لَهُمْ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الْآيَةَ [الزُّمَر: 53] وَغَلَبَ عَلَى قَوْمٍ جَانِبُ الْإِهْمَالِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ؛ فَخُوِّفُوا وَعُوتِبُوا كَقَوْلِه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} الْآيَةَ [الْأَحْزَاب: 57] فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا مِنْ تَرْتِيبِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِي آيَاتِهِ، فَعَلَى الْمُكَلَّفِ الْعَمَلُ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ التَّأْدِيبِ.
تَعْرِيفُ الْقُرْآنِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَكْثَرُهُ كُلِّيٌّ لَا جُزْئِيٌّ، وَحَيْثُ جَاءَ جُزْئِيًّا؛ فَمَأْخَذُهُ عَلَى الْكُلِّيَّةِ إِمَّا بِالِاعْتِبَارِ، أَوْ بِمَعْنَى الْأَصْلِ؛ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ مِثْلَ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بَعْدَ الِاسْتِقْرَاءِ الْمُعْتَبَرِ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْبَيَانِ؛ فَإِنَّ السُّنَّةَ عَلَى كَثْرَتِهَا وَكَثْرَةِ مَسَائِلِهَا إِنَّمَا هِيَ بَيَانٌ لِلْكِتَابِ، كَمَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْل: 44] وَفِي الْحَدِيث: «مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أُعْطِي مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ؛ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَإِنَّمَا الَّذِي أُعْطِيَ الْقُرْآنَ وَأَمَّا السُّنَّةُ؛ فَبَيَانٌ لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْقُرْآنُ عَلَى اخْتِصَارِهِ جَامِعٌ، وَلَا يَكُونُ جَامِعًا إِلَّا وَالْمَجْمُوعُ فِيهِ أُمُورٌ كُلِّيَّاتٌ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ تَمَّتْ بِتَمَامِ نُزُولِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الْآيَةَ [الْمَائِدَة: 3]. وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْجِهَادَ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ لَمْ يَتَبَيَّنْ جَمِيعُ أَحْكَامِهَا فِي الْقُرْآنِ، إِنَّمَا بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ، وَكَذَلِكَ الْعَادِيَّاتُ مِنَ الْأَنْكِحَةِ وَالْعُقُودِ وَالْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ وَغَيْرِهَا وَأَيْضًا، فَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى رُجُوعِ الشَّرِيعَةِ إِلَى كُلِّيَّاتِهَا الْمَعْنَوِيَّةِ؛ وَجَدْنَاهَا قَدْ تَضَمَّنَهَا الْقُرْآنُ عَلَى الْكَمَالِ، وَهِيَ الضَّرُورِيَّاتُ وَالْحَاجِيَّاتُ وَالتَّحْسِينَاتُ وَمُكَمِّلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ أَيْضًا؛ فَالْخَارِجُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَنِ الْكِتَابِ هُوَ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ إِنَّمَا نَشَأَ عَنِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ عَدَّ النَّاسُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النِّسَاء: 105] مُتَضَمِّنًا لِلْقِيَاسِ، وَقَوْلَهُ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الْحَشْر: 7] مُتَضَمِّنًا لِلسُّنَّةِ، وَقَوْلَهُ: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النِّسَاء: 115] مُتَضَمِّنًا لِلْإِجْمَاعِ، وَهَذَا أَهَمُّ مَا يَكُونُ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ إِلَخْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ، يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؛ فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَذَكَرَتْهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّه: وَمَالِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ لَوْحَيِ الْمُصْحَفِ فَمَا وَجَدْتُهُ! فَقَالَ لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْر: 7] الْحَدِيثَ وَعَبْدُ اللَّهِ مِنَ الْعَالِمِينَ بِالْقُرْآنِ.
فَعَلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي فِي الِاسْتِنْبَاطِ مِنَ الْقُرْآنِ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ دُونَ النَّظَرِ فِي شَرْحِهِ وَبَيَانِهِ وَهُوَ السُّنَّةُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كُلِّيًّا وَفِيهِ أُمُورٌ جُمْلِيَّةٌ كَمَا فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهَا؛ فَلَا مَحِيصَ عَنِ النَّظَرِ فِي بَيَانِهِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي تَفْسِيرِ السَّلَفِ الصَّالِحِ لَهُ إِنْ أَعْوَزَتْهُ السُّنَّةُ؛ فَإِنَّهُمْ أَعْرَفُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِلَّا فَمُطْلَقُ الْفَهْمِ الْعَرَبِيِّ لِمَنْ حَصَّلَهُ يَكْفِي فِيمَا أَعْوَزَ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
|